قوله تعالى : { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } قوله : { جعلناه } أي : صيرنا قراءة هذا الكتاب عربياً . وقيل : بيناه . وقيل : سميناه . وقيل : وصفناه ، يقال : جعل فلان زيداً أعلم الناس ، يعني وصفه ، هذا كقوله تعالى :{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } ( الزخرف-19 ) وقوله :{ جعلوا القرآن عضين } ( الحجر-91 ) ، وقال :{ أجعلتم سقاية الحاج }( التوبة-19 ) ، كلها بمعنى الوصف والتسمية .
و ( الواو ) فى قوله - تعالى - : { والكتاب المبين } للقسم ، والمقسم به الكتاب ، وجواب القسم قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } .
أى : وحق هذا الكتاب الواضح المرشد إلى طريق الحق والسعادة ، لقد جعلنا قدرتنا وحكمتنا هذا الكتاب قرآنا عربيا { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى : جعلناه كذلك لكى تفهموه وتتعقلوه معانيه ، وتهتدوا إلى ما فيه من الأحكام السامية ، والآداب العالية .
قال صاحب الكشاف : أقسم - سبحانه - بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } جوابا للقسم ، وهو من الأيمان الحسنة البديعة ، لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد . . و { المبين } أى : البين الذى أنزل بلغتهم وأساليبهم .
فقوله - تعالى - : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } بيان للحكمة التى من أجلها أنزل الله - تعالى - هذا القرآن بلسان عربى مبين . أى : جعلناه كذلك رجاء أن تعقلوا وتفهموه أوامره ونواهيه ، وتوجيهاته وإرشاداته .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وإن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب عندنا لعليّ : يقول : لذو علوّ ورفعة ، حكيم : قد أحكمت آياته ، ثم فصلت فهو ذو حكمة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : حدثنا عروة بن عامر ، أنه سمع ابن عباس يقول : أوّل ما خلق الله القلم ، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق ، قال : والكتاب عنده ، قال : وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى : وإنّهُ في أمّ الكِتابِ لَدَيْنا لِعَلِيّ حَكِيمٌ يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند الله منه نسخ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت مالكا يروي عن عمران ، عن عكرمة وإنّهُ فِي أُمّ الكِتاب لَدَيْنا قال : أمّ الكتاب القرآن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَإنّهُ في أمّ الكِتاب لَدَيْنا قال : أمّ الكتاب : أصل الكتاب وجملته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنّهُ فِي أُمّ الكِتابِ : أي جملة الكتاب أي أصل الكتاب .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَإنّهُ فِي أُمّ الكِتابِ يقول : في الكتاب الذي عند الله في الأصل .
وقوله : لَدَيْنا لَعَلِيّ حَكِيمٌ وقد ذكرنا معناه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَدَيْنا لَعَلِيّ حَكِيمٌ يخبر عن منزلته وفضله وشرفه .
وضمير { جعلناه } عائد إلى { الكتاب } ، أي إنا جعلنا الكتاب المبينَ قرآناً والجعل : الإيجاد والتكوين ، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد .
والمعنى : أنه مقروء دون حضور كتاب فيقتضي أنه محفوظ في الصدور ولولا ذلك لما كانت فائدة للإخبار بأنه مقروء لأن كل كتاب صالح لأن يقرأ . والإخبار عن الكتاب بأنه قرآن مبالغة في كون هذا الكتاب مقروءاً ، أي ميسّراً لأنْ يُقرأ لقوله : { ولقد يسّرنا القرآن للذكر } [ القمر : 17 ] وقوله : { إنّ علينا جمعَه وقُرآنه } [ القيامة : 17 ] . وقوله : { إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] .
فحصل بهذا الوصف أن الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم جامع لوصفين : كونِه كتاباً ، وكونه مقروءاً على ألسنة الأمة .
وهذا مما اختص به كتاب الإسلام . و { عربياً } نسبة إلى العرب ، وإذ قد كان المنسوب كتاباً ومقروءاً فقد اقتضى أن نسبته إلى العرب نسبة الكلام واللّغةِ إلى أهلها ، أي هو مما ينطق العرب بمِثل ألفاظه ، وبأنواع تراكيبه .
وانتصب { قرآناً } على الحال من مفعول { جعلناه } .
ومعنى جعله { قرآناً عربياً } تكوينه على ما كُونت عليه لغة العرب ، وأن الله بباهر حكمتِه جعل هذا الكتاب قرآناً بلغة العرب لأنها أشرف اللّغات وأوْسعها دلالة على عديد المعاني ، وأنزله بين أهل تلك اللّغة لأنهم أفهم لدقائقها ، ولذلك اصطفى رسوله من أهل تلك اللّغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم فيكونوا المبلغين مرادَ الله إلى الأمم . وإذا كان هذا القرآن بهاته المثابة فلا يأبَى مِن قبوله إلا قوم مسرفون في الباطل بُعداءُ عن الإنصاف والرشد ، ولكن الله أراد هديهم فلا يقطع عنهم ذكره حتى يتمّ مراده ويكمُل انتشار دينه فعليهم أن يراجعوا عقولهم ويتدبروا إخلاصهم فإن الله غير مُؤاخِذِهم بما سلف من إسرافهم إن هم ثَابُوا إلى رشدهم .
والمقصود بوصف الكتاب بأنه عربي غَرضان : أحدهما التنويه بالقرآن ، ومدحه بأنه منسوج على منوال أفصح لغة ، وثانيهما التورّك على المعاندين من العرب حين لم يتأثروا بمعانيه بأنهم كمن يسمع كلاماً بلغة غير لغته ، وهذا تأكيد لما تضمنه الحرفان المقطعان المفتتحة بهما السورة من معنى التحدّي بأن هذا كتاب بلغتكم وقد عجزتم عن الإتيان بمثله .
وحَرْف ( لعلّ ) مستعار لمعنى الإرادة وتقدم نظيره في قوله : { لعلكم تعقلون } في أوائل سورة البقرة ( 73 ) .
والعقل الفهم . والغرض : التعريضُ بأنهم أهملوا التدبر في هذا الكتاب وأن كماله في البيان والإفصاح نستأهل العناية بِه لا الإعراض عنه فقوله : { لعلكم تعقلون } مشعر بأنهم لم يعقلوا .
والمعنى : أنّا يسرنا فهمه عليكم لعلكم تعقلون فأعرضتم ولم تعقلوا معانيه ، لأنه قد نزل مقدار عظيم لو تدبروه لعقلوا ، فهذا الخبر مستعمل في التعريض على طريقة الكناية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.