مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (3)

أما قوله { إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه ( الأول ) أن الآية تدل على أن القرآن مجعول ، والمجعول هو المصنوع المخلوق ، فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد أنه سماه عربيا ؟ قلنا هذا مدفوع من وجهين ( الأول ) أنه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أن من سماه عجميا أن يصير عجميا وإن كان بلغة العرب ومعلوم أنه باطل ( الثاني ) أنه لو صرف الجعل إلى التسمية لزم كون التسمية مجعولة ، والتسمية أيضا كلام الله ، وذلك يوجب أنه فعل بعض كلامه ، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل ( الثاني ) أنه وصفه بكونه قرآنا ، وهو إنما سمي قرآنا لأنه جعل بعضه مقرونا بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعا معمولا ( الثالث ) أنه وصفه بكونه عربيا ، وهو إنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما اختصت بمسمياتهم بوضع العرب واصطلاحاتهم ، وذلك يدل على كونه معمولا ومجعولا ( والرابع ) أن القسم بغير الله لا يجوز على ما هو معلوم فكان التقدير حم ورب الكتاب المبين ، وتأكد هذا أيضا بما روي أنه عليه السلام كان يقول يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم والجواب : أن هذا الذي ذكرتموه حق ، وذلك لأنكم إنما استدللتم بهذه الوجوه على كون هذه الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة محدثة مخلوقة ، وذلك معلوم بالضرورة ومن ينازعكم فيه ، بل كان كلامكم يرجع حاصله إلى إقامة الدليل على ما عرف ثبوته بالضرورة .

المسألة الثانية : كلمة لعل للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالما بعواقب الأمور ، فكان المراد منها هاهنا : كي أي أنزلناه قرآنا عربيا لكي تعقلوا معناه وتحيطوا بفحواه ، قالت المعتزلة فصار حاصل الكلام { إنا أنزلناه قرآنا عربيا } لأجل أن تحيطوا بمعناه ، وهذا يفيد أميرين ( أحدهما ) أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والدواعي ( والثاني ) أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليهتدي به الناس ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من الكل الهداية والمعرفة ، خلاف قول من يقول إنه تعالى أراد من البعض الكفر والإعراض ، واعلم أن هذا النوع من استدلالات المعتزلة مشهور ، وأجوبتنا عنه مشهورة ، فلا فائدة في الإعادة والله أعلم .

المسألة الثالثة : قوله { لعلكم تعقلون } يدل على أن القرآن معلوم وليس فيه شيء مبهم مجهول خلافا لمن يقول بعضه معلوم وبعضه مجهول .