اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (3)

وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } جواب القسم . وهذا عندهم من البلاغة ، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ{[49565]} واحدٍ ، كقول أبي تمام :

4388 . . . . . . . . . . . . . . *** وَثَنَايَاك إنَّها إغْريضُ{[49566]}

إن أريد بالكتاب القرآن ، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك . والضمير في «جَعَلْنَاهُ » على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم يصرح بذكره{[49567]} . والجَعْلُ في هذا تصيير ، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقناه{[49568]} .

فصل

ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين :

الأول : أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم .

الثاني : أن يكون القسم واقعاً على قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } .

وفي المراد بالكتاب قولان :

أحدهما : أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً .

والثاني : المراد بالكتاب الكتابة والخط ، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع ، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال ، وأبان ما يحتاج{[49569]} إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز ؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل{[49570]} البيان عنده{[49571]} .

وقوله : «جَعَلْنَاهُ » أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب{[49572]} عربياً . بيّناه{[49573]} . وقيل : سميناه وقيل : وضعناه . يقال : جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً ، أي وصفه بهذا ، كقوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] و{ جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } [ الحجر : 91 ] { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } [ التوبة : 19 ] كلها بمعنى الوصف والتسمية .

فصل احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :

الأول : أنها تدل على أن القرآن مجعول ، والمجعول هو المصنوع المخلوق . فإن قيل : المراد به أنه سماه عربيا ، فهذا مدفوع من وجهين :

الأول : أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً ، وإن كان بلغة العرب ، وهذا باطل .

الثاني : ( أنه ) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة ، والتسمية أيضاً كلام الله وذلك أنه جعل بعض كلامه ، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل .

الثاني : أنه وصفه بكونه قرآناً ، وهو إنما سمي قرآناً ، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض ، وما كان ذلك مصنوعاً .

الثالث : وصفه بكونه عربياً ، وإنما يكون عربياً ، لأن العرب اختصت بوضع ألفاضه واصطلاحهم ، وذلك يدل على أنه مجعول . والتقدير : حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ .

ويؤكد هذا بقولهن عليه الصلاة والسلام «يَا رَبَّ طَه وَيس ، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم »{[49574]} .

وأجاب ابن الخطيب : بأن هذا الذي ذكرتموه حق ؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً{[49575]} ، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه .

قله : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } كلمة «لَعَلَّ » للتمني والترجي ، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور ، وكان{[49576]} المراد ههنا : إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِطُوا بمَعْنَاه{[49577]} .


[49565]:بالمعنى من الكشاف 3/447 وباللفظ من الدر 4/770.
[49566]:من بحر الخفيف وعجزه: ولآل توم وبزق وميض ............................. والثنايا: جمع ثنية مقدم الأسنان من تحت ومن فوق ثنتان متقابلتان، والإغريض: الطلع ثم أطلق على البرد وهو حبات البلح الصغيرة. والتوم جمع تومة اللؤلؤة العظيمة. والشاهد في قوله: إنها إغريض حيث وقعت هذه الجملة جوابا للقسم وهي تعني الأسنان فاتحد القسم وجوابه معنى.
[49567]:انظر المرجعين الأخيرين السابقين.
[49568]:فقد قال في شرح الكشاف 3/477 أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد.
[49569]:في ب تحتاج بالتاء.
[49570]:انظر الرازي 27/192 و193 وفي ب جعل بدل حصل.
[49571]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/447.
[49572]:وهو رأي الزجاج انظر معاني القرآن 4/405.
[49573]:وهو رأي الزجاج انظر معاني القرآن 4/405.
[49574]:لم أعثر عليه إلا في تفسير الإمام الرازي 27/193.
[49575]:في الرازي: محدثة مخلوقة.
[49576]:وفيه: فكان المراد منها.
[49577]:وانظر الرازي المرجع السابق.