والاستفهام فى قوله : { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً . . } للإِنكار والنفى .
أى : لا يصح ولا يجوز أن اتخذ معه فى العبادة آلهة أخرى ، كائنة ما كانت هذه الآلهة ، لأنه { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } من النفع ، حتى ولو كان هذا النفع فى نهاية القلة والحقارة .
{ وَلاَ يُنقِذُونَ } : ولا تستطيع هذه الآلهة إنقاذى وتخليصى مما يصيبنى من ضر أراد الرحمن أن ينزله بى .
ثم أتبعه بإبطال عبادة الأصنام فرجع إلى طريقة التعريض بقوله : { أأتخذ من دونه آلهة } وهي جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لاستشعار سؤال عن وقوع الانتفاع بشفاعة تلك الآلهة عند الذي فطره ، والاستفهام إنكاري ، أي أنكر على نفسي أن أتخذ من دونه آلهة ، أي لا أتخذ آلهة .
والاتخاذ : افتعال من الأخذ وهو التناول ، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل ، فالاتخاذ مشعر بأنه صُنع وذلك من تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة لأن الإِله الحق لا يُجعل جعلاً ولكنه مستحق الإلهية بالذات .
ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذَ بجملة الشرط بقوله : { إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } . والمقصود : التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى . وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع لأن دواعي دفع الضر عن المَولى أقوى وأهم ، ولحاق العار بالوَليّ في عجزه عنه أشد .
وجاء بوصف { الرحمان } دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء } [ يس : 15 ] .
والإِنقاذ : التخليص من غلب أو كرب أو حيرة ، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني .
وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام لأن من يعلم أنه لا يُشفع لا يشْفّع ، فكأنه قال : آتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله ، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة .
وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضرّ وينفع في صفات الإِلهية كان انتفاء أن ينقِذوا أولى . وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى إلى دلالة المنطوق لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإِيمان وهو أساس الصلاح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا} لا تقدر الآلهة أن تشفع لي، فتكشف الضر عني شفاعتها {ولا ينقذون} من الضر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أأتّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً" يقول: أأعبد من دون الله آلهة، يعني معبودا سواه "إنْ يُردْنِ الرّحْمَنُ بِضُرّ "يقول: إذ مسني الرحمن بضرّ وشدّة "لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئا" يقول: لا تغني عني شيئا بكونها إليّ شفعاء، ولا تقدر على دفع ذلك الضرّ عني "وَلا يُنْقِذُونِ" يقول: ولا يخلصوني من ذلك الضرّ إذا مسني.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أأتخذ من دونه آلهة} ليتم التوحيد، فإن التوحيد بين التعطيل والإشراك.
وما لي لا أعبد إشارة إلى وجود الإله.
{أأتخذ من دونه} إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله، وفي الآية أيضا لطائف:
الأولى: ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر، وذلك أن من أخبر من شيء فقال مثلا: لا أتخذ، يصح من السامع أن يقول له: لم لا تتخذ؟ فيسأله عن السبب، فإذا قال: أأتخذ؟ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار.
الثالثة: قوله: {أأتخذ} إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله، ولهذا قال تعالى: {ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} وقال: {الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز، وإنما النصارى قالوا: تبنى الله عيسى وسماه ولدا فقال: {ولم يتخذ ولدا}، ومعنى قوله: {فاتخذه وكيلا} أي في جميع أمورك.
وقوله تعالى: {لا تغن عني} يحتمل وجهين؛
أحدهما: أن يكون كالوصف كأنه قال: أأتخذ آلهة غير مغنية عند إرادة الرحمن بي ضرا.
وثانيهما: أن يكون كلاما مستأنفا كأنه قال لا أتخذ من دونه آلهة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع،فإن الله لو أرادني بسوء، {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [يونس: 107]
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر صريحاً ونهى تلويحاً، ورغب ورهب، ووبخ وقرع، وبين جلالة من آمن به ومن كانوا سبباً في ذلك، أنكر على من يفعل غيره بالإنكار على نفسه، محقراً لمن عبدوه من دون الله وهم غارقون في نعمه، فقال مشيراً بصيغة الافتعال إلى أن في ذلك مخالفة للفطرة الأولى: {ءأتخذ} وبين علو رتبته سبحانه بقوله: {من دونه} أي سواء مع دنو المنزلة؛ وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال: {آلهة} ثم حقق ذلك بقوله مبيناً بأداة الشك أن النفع أكثر من الضر ترغيباً فيه سبحانه: {إن يردن} إرادة خفيفة بما أشار إليه حذف الياء، أو شديدة بما أشار إليه إثباتها، ظاهرة بما دل عليه تحريكها، أو خفية بما نبه عليه إسكانها.
ولما ذكرهم بإبداعه سبحانه له إرشاداً إلى أنهم كذلك، صرح بما يعمهم فقال: {الرحمن} أي العام النعمة على كل مخلوق من العابد والمعبود، وحذرهم بقوله: {بضر} وأبطل أنهى ما يعتقدونه فيها بقوله: {لا تغن عني} أي وكل أحد مثلي في هذا {شفاعتهم} أي لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد {شيئاً} من إغناء.
ولما دل بإفراد الشفاعة على عدهم عدماً ولو اتحدت شفاعتهم وتعاونهم في آن واحد، دل بضمير الجمع على أنهم كذلك سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين فقال: {ولا ينقذون} أي من مصيبته إن دعا الأمر إلى المشاققة بما أراده فإنه بمجرد إرادته يكون مراده، إنفاذاً ضعيفاً -بما أشار إليه من حذف الياء، ولا شديداً- بما دل عليه من أثبتها ظاهراً خفياً.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
هو ترق من الأدنى إلى الأعلى بدأ أولاً بنفي الجاه وذكر ثانياً انتفاء القدرة وعبر عنه بانتفاء الإنقاذ لأنه نتيجته.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا، وَلَا هُمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده اللّه بي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أتبعه بإبطال عبادة الأصنام فرجع إلى طريقة التعريض بقوله: {أأتخذ من دونه آلهة}.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ وهو التناول، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل، فالاتخاذ مشعر بأنه صُنع وذلك من تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة؛ لأن الإِله الحق لا يُجعل جعلاً ولكنه مستحق الإلهية بالذات.
ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذَ بجملة الشرط بقوله: {إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون}، والمقصود: التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع؛ لأن دواعي دفع الضر عن المَولى أقوى وأهم، ولحاق العار بالوَليّ في عجزه عنه أشد.
وجاء بوصف {الرحمان} دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفاً عند قوله تعالى: {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء} [يس: 15].
والإِنقاذ: التخليص من غلب أو كرب أو حيرة، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني.
وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام؛ لأن من يعلم أنه لا يُشفع لا يشْفّع، فكأنه قال: آتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة.
وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضرّ وينفع في صفات الإِلهية، كان انتفاء أن ينقِذوا أولى، وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى إلى دلالة المنطوق؛ لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإِيمان وهو أساس الصلاح.
الاستفهام في {أَأَتَّخِذُ} يحمل معنى التعجُّب والإنكار، فهو يتعجب وينكر: كيف يتخذ من دون الله آلهة، والله هو الذي خلقه، وحين تتأمل معنى الفعل (أتخذ) تجد أن الشيء المُتَّخذ ليس أصلاً، فمعنى اتخاذ آلهة أنها ليستْ آلهة في الحقيقة، وأنها لا تستحق أنْ تكون آلهة، لكن عمدتَ إليها فجعلتها آلهة... إذن: ما دامت هذه آلهة متخذة، فالمعنى أنها ليس لها وجود أصلاً، وكأن الرجل يُصحِّح للقوم فكرتهم عن العبادة.
وقوله سبحانه: {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ} هذه العبارة فيها لفتة لطيفة ينبغي تأملها؛ لأن صفة الرحمة في الرحمن تتناقض مع الضر، فكيف جمع السياق بينهما؟
نقول: إذا فسرتَ ما يجري عليك به قَدَر الله على أنه ضُرٌّ لك فتعقَّل أنه من رحمن، فلا بد أن يكون لمجريه عليك وهو الرحمن حكمة فيما أجرى، لذلك نقول: أحمدك ربي على كُلِّ قضائك وجميع قدرك، حَمْدَ الرضا بحكمك، لليقين بحكمتك.
فكأن الحق سبحانه يقول لك: تنبه أنه ليس كل ما تراه بقوانينك أنت ضاراً لك، هو كذلك؛ لن مُجريه عليك رحمن، ففي طيَّات هذا الضر نَفْع كثير. كما يقدم الأب الحنون ولده للطبيب فيُجري له جراحة مؤلمة، أو يقطع جزءاً منه ليُصلح باقي الجسم، فهذا ضرر في الظاهر، وفي الحقيقة رحمة به...
إذن: اللمسة التي نريد الوقوف عندها في هذه الآية أن الرحمن إنْ كانت تنافي عندك فِعْل الضر، فهذا عندك أنت، إنما عند مُجريها لا تنافي، لأنها من الرحمانية.
وقوله تعالى: {لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} يعني: شفاعة هذه الآلهة -إنْ كانت لهم شفاعة- لا تُجدي، لأنهم شركاء لله وأنداد لله، فكيف تُقْبل شفاعتهم عنده سبحانه؟
وشرط في الشفاعة أن يكون الشافع محبوباً عند المشفوع عنده، فهذه الآلهة على فرْض أنه كان لهم شفاعة، فهي غير مقبولة عند الله تعالى، مع أن هذه الآلهة في ذاتها معذورة حيث لا ذنبَ لها، فهي ما ادَّعَتْ أنها آلهة، إنما ادَّعى البشر ذلك.
وسبق أنْ ذكرنا أن هذه الآلهة قد تبرأت من كونها تُعبد من دون الله، وصدق الشاعر الذي صاغ هذا المعنى: فقال على لسان هذه الآلهة:
وقوله سبحانه: {وَلاَ يُنقِذُونَ} لأن الشافع حين تُرد شفاعته يمكن أن ينقذ المشفوع فيه من يد المشفوع عنده، أما هؤلاء الآلهة فلا تُقبل شفاعتها، ولا تستطيع أنْ تنقذ مَنْ طلب منها أنْ تشفع له.
وقد بيَّنَّا معنى الشفاعة، وأنها من الشفع يعني: إنسان له قضية، ولا يستطيع وحده بأسباب حَلَّ هذه القضية فيستعين بآخر ليساعده وينضم إليه لِيقوِّيه على حَلِّها، إذن: بعد أنْ كان مفرداً صار بالشافع شفعاً، يعني: اثنين...
إذن: هذه الآلهة -على فَرْض أن لها شفاعة- فهي شفاعة مردودة غير مقبولة، وهم أيضاً لا يستطيعون إنقاذ مَنْ يلجأ إليهم من قبضة الحق سبحانه، فهم لا يصلحون للشفاعة، ولا للإنقاذ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هنا أيضاً يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والاستعلاء عليهم، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام الله، فكأنّه يقول: أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم، فماذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟
التعبير ب «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريد أحداً بضرٍّ، إلاّ إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.