اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ} (23)

وقوله { أَأَتَّخِذُ } مبني على كلام{[45909]} الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء الالتفات{[45910]} ، وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون بفتحها{[45911]} . واعلم أن قوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ } أَيْ أيُّ{[45912]} مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع{[45913]} من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة{[45914]} القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم » لم يكن في البيان مثل قوله : { وَمَا لِيَ } لأنه لو قال : «وَمَا لِي » وأحد لا يخفى عليه ( حال ){[45915]} نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال : «وَمَا لَكُمْ » جاز أن يفهم ( منه ){[45916]} أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه . وقوله : { الذي فَطَرَنِي } إشارة إلى وجود المقتضي ، فإن قوله : «وَمَا لِي » إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل{[45917]} ما لم يوجد المقتضي ، فقوله : { الذي فَطَرَنِي } دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته . وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي{[45918]} لأن المقتضي لظهوره كأن مستغنيا عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً ( لا يكون{[45919]} إلا ) كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على «زيد » بخلق «زيد » أظهر إيجاباً{[45920]}

فصل

أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن{[45921]} الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق . روي أنه لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له : «أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ » ؟ فقال : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }{[45922]} أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم .

ومعنى فطرني : خلقني اختراعاً ابتداء . وقيل : جعلني على الفطرة كما قال تعالى : { فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] .

قوله : { أَأَتَّخِذُ } استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و «مِنْ دُونِهِ » يجوز أن يتعلق «بأَتِّخِذُ » على أنها متعدية لواحد وهو «آلهة » ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آلهة »{[45923]} وأن يكون مفعولاً ثانياً{[45924]} قدم على أنها المتعدية لاثنين{[45925]} .

فصل

في قوله : «من دونه آلهة » لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادته لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله : { أَأَتَّخِذُ } إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً{[45926]} قوله : «إنْ يُرِدْنِي » شرط جوابه «لاَ تُغْنِ عَنِّي »{[45927]} والجملة الشرطية في محل نصب صفة «لآلهةٍ »{[45928]} . وفتح طلحة السَّلْمَانِي{[45929]} - وقيل : طلحة بن مصرف{[45930]}- ياء المتكلم{[45931]} . وقال الزمخشري وقرىء : إن يردني الرحمن بِضُر بمعنى إن يُورِدْنِي{[45932]} ضُرًّا أي يجعله{[45933]} مَوْرداً للضر{[45934]} . قال أبو حيان : وهذا والله أعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية{[45935]} كالهمزة{[45936]} فلذلك أدخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين{[45937]} قال شهاب الدين : وهذا رجل ثِقَةٌ قد نقل هذا القراءة فتقبل منه{[45938]} .

فإن قيل : ما الحِكْمَةُ في قوله { إِن يُرِدْنِي الرحمن بِضُرٍّ } ولم يقل : إنْ يُرِد الرَّحْمَنُ بِي ضُرًّا وكذلك قوله تعالى : { إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [ الزمر : 38 ] ولم يقل : إن أَرَادَ اللُّهُ بي ضُرًّا ؟ .

فالجواب : أن الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر{[45939]} تعدى بالحرف{[45940]} في قولهم : ذَهَبَ به وخَرَجَ به . ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً : كيف حال{[45941]} فلان ؟ يقول : اختصه الملكُ بالكرامة والنعمة . فإذا قال : كيف كرامة الملك ؟ يقول : اختصها بزيد فيقول{[45942]} المسؤول مفعولاً{[45943]} بغير حرف ؛ لأنه هو المقصود . وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه : بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البُؤْسِ والرَّخاء{[45944]} وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله . ويُؤَيِّد هذا قولُه مِنْ قَبْل : «الَّذِي فَطَرَنِي » حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر{[45945]} تبعاً . وكذلك القول في قوله : «إنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بضُرِّ » المقصود بيان أنه يكون كما يريده{[45946]} الله ( وليس{[45947]} الضر ) لخصوصيته مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى :

{ أليسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] يعني هو تحت إرادتِهِ .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله هنا : «إن يُرِدْني الرحمن » بصيغة المضارع وقال في الزمر : { إِنْ أَرَادَنِيَ الله } [ الزمر : 38 ] بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك باسم الله ؟ .

فالجواب أن الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله : { أَأَتَّخِذُ } وقوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ } والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي قوله : { أَفَرَأَيْتُم } [ الزمر : 38 ] .

قوله : { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئا } [ يس : 23 ] أي إن يَمْسَسْنِي اللَّهُ بضرِّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ شفاعتهم شيئاً أي لا شفاعة لها فتغني «ولا يُنْقِذُونِ » من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك .


[45909]:في "ب" كلامه وانظر: الكشاف 3/319.
[45910]:وانظر: البحر 7/328 والدر المصون 4/503.
[45911]:الإتحاف 364 وهي من الربع فوق العشرة المتواترة.
[45912]:في الرازي: "ما لي مانع من جانبي".
[45913]:في "ب" يمتنع.
[45914]:في الرازي: عن مخاطبة.
[45915]:ساقطان من "ب".
[45916]:ساقطان من "ب".
[45917]:في "ب" العقل. خطأ.
[45918]:وانظر في هذا كله تفسير الإمام الفخر 26/55و 56.
[45919]:ما بين القوسين سقط من "ب" وفي "ب": لأن من خلق عمرو كامل. بالإثبات.
[45920]:انظر: المرجع السابق 26/56.
[45921]:في "ب" لأن الفطرة.
[45922]:سقط من "ب" وانظر: القرطبي 15/19 وزاد المسير 7/13.
[45923]:أي كائنة أو موجودة.
[45924]:أي أأتخذ آلهة موجودة من دونه. " فمن دونه" تكميل "لموجودة" التي هي المفعول الثاني أصلا.
[45925]:وبعضهم أنكر أن تنصب "تخذ واتخذ وترك" مفعولين وقال: إنما يتعدى إلى واحد والمنصوب الثاني حال ومن أمثلتها "لاتخذن عليه أجرا" و "اتخذ الله إبراهيم خليلا". وانظر: الدر المصون 4/509 وهمع السيوطي 1/150.
[45926]:قاله الإمام الفخر الرازي 26/57.
[45927]:قال في التبيان 1080 والإعراب للنحاس 3/389 والدر للسمين 4/509.
[45928]:الدر المصون السابق.
[45929]:تصحيحه كما في كتب تراجم القراء: السمان. وهو طلحة بن سليمان مقرىء متصدر أخذ القراءة عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف وله شواذ تروى عنه. روى عنه القراءة إسحاق بن سليمان أخوه. انظر: غاية النهاية 1/341.
[45930]:كما في كتاب الشواذ لابن خالويه 125.
[45931]:المرجع السابق والبحر 7/329 والدر المصون 4/504 وفي شواذ القرآن 202: "إن يردني" بفتح الياء وإثباته في الوقف طلحة وعيسى وأبو جعفر.
[45932]:في (ب) يردني تحريف.
[45933]:في الكشاف: أي يجعلني موردا للضر.
[45934]:الكشاف 3/319.
[45935]:في المضارع.
[45936]:في الماضي أورد.
[45937]:البحر 7/329.
[45938]:دافع عن الزمخشري وانظر الدر المصون 4/504 وأنا لا أرى مبررا لقبول هذه القراءى فالتكلف فيها واضح وفيها مساواة بين ورد وأورد ثلاثيا ورباعيا وهو في غاية الشذوذ.
[45939]:كذا في النسختين. والصحيح كاللازم.
[45940]:في "ب" بحرف. وانظر: تفسير الرازي 26/58.
[45941]:في "أ" قال والتصحيح من "ب" والفخر.
[45942]:الأصح: فيجعل كما في الرازي.
[45943]:في "ب" مفعول.
[45944]:في "أ" والرجاء وكذلك هي كما هي أعلى في الفخر .
[45945]:في "ب" الصفة.
[45946]:في "ب" يرده. وكلاهما تحريف.
[45947]:سقط من "ب".