المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

12- وجعلنا الليل والنهار بهيئاتهما وتعاقبهما علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا فأزلنا من الليل الضوء فلا يستبان فيه شيء ، وكانت علامته ظلاماً لا تسرى فيه الشمس ، تلك العلامة الكبرى ، وجعلنا النهار مبصراً ، وترى فيه الشمس الآية الكبرى لتتجهوا في ضوء النهار إلى التصرف في معاشكم ، ولتعلموا باختلاف الليل والنهار عدد السنين وحساب الأشهر والأيام ، وكل شيء لكم فيه مصلحة بيَّناه لكم بياناً واضحاً ، لتقوم عليكم الحُجة بعد تمام النعمة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

وقوله عز وجل : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } ، أي : علامتين دالتين على وجودنا ووحدانيتنا وقدرتنا ، { فمحونا آية الليل } ، قال ابن عباس : جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ، ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعلها مع نور الشمس . حكى أن الله تعالى أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور . سأل ابن الكواء علياً عن السواد الذي في القمر ؟ قال : هو أثر محو . { وجعلنا آية النهار مبصرةً } ، منيرة مضيئة ، يعني يبصر بها . قال الكسائي : تقول العرب أبصر النهار إذا أضاء بحيث يبصر بها ، { لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب } ، أي : لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ، ولم يدر الصائم متى يفطر ، ولم يدر وقت الحج ولا وقت حلول الآجال ولا وقت السكون والراحة . { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وسعة رحمته بعباده ، ومجازاتهم على أعمالهم يوم القيامة فقال - تعالى - : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }

قال أبو حيان : قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ . . } لما ذكر - سبحانه - القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ، ذكر ما أنعم به مما لم يمكن الانتفاع إلا به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوى . وأيضا لما ذكر عجلة الإِنسان ، وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك فى الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاص آخر .

والمراد بالآيتين هنا : العلامتان الواضحتان ، الدالتان على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته .

وقوله : { فمحونا } من المحو بمعنى إزالة أثر الشئ ، يقال : محا فلان الشئ محوا - من باب قتل - إذا أزال أثره .

وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات : أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه ، أن المراد بالآيتين : نفس الليل والنهار ، وأن الكلام ليس فيه حذف .

فيكون المعنى : وجعلنا الليل والنهار - بهيئاتهما الثابتة ، وتعاقبهما الدائم ، واختلافهما طولا وقصرا - آيتين كونيتين كبيرتين ، دالتين على أن لهما صانعا قادرا ، حكيما ، هو الله رب العالمين .

وقوله - سبحانه - { فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل } أى : فجعلنا الآية التى هى الليل . ممحوة الضوء ، مظلمة الهيئة ، مختفية فيها الأشياء ، ساكنة فيها الحركات .

وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً } أى : وجعلنا الآية التى هى النهار مضيئة ، تبصر فيها الأشياء وترى بوضوح وجلاء .

وعلى هذا الاتجاه ، تكون إضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشئ إلى نفسه ، مع اختلاف اللفظ ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف فى المعنى ، كما فى قوله - تعالى - { شهر رمضان } فرمضان هو نفس الشهر .

وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن الكلام على حذف مضاف ، وأن المراد بالآيتين : الشمس والقمر ، فيكون المعنى : وجعلنا نيرى الليل والنهار - وهما الشمس والقمر - آيتين دالتين على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته ، فمحونا آية الليل - وهى القمر - ، بأن أزلنا عنه شعاعه وضياءه ، ولم نجعله كالشمس فى ذلك ، وجعلنا آية النهار - وهى الشمس - مبصرة ، أى : ذات شعاع وضياء يبصر فى ضوئها الشئ على حقيقته .

وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين دون أن يرجح بينهما فقال : قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ . . } فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان فى أنفسهما ، فتكون الإِضافة فى آية الليل وآية النهار للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود ، أى : فمحونا الآية التى هى الليل ، وجعلنا الآية التى هى النهار مبصرة .

والثانى : أن يراد : وجعلنا نيرى الليل والنار آيتين ، يريد الشمس والقمر . . .

أى : فمحونا آية الليل التى هى القمر ، حيث لم نخلق له شعاعا كشعاع الشمس تبصر به الأشياء ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر فى ضوئها كل شئ .

والذى نراه : أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ؛ ولأنه لا يحتاج إلى تقدير ، وما كان كذلك أولى مما يحتاج إلى تقدير ، ولأن الليل والنهار هما بذاتهما من أظهر العلامات والأدلة على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته .

وهناك عشرات الآيات القرآنية فى هذا المعنى ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } وقوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر . . . } وقال - تعالى - : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التى أوردها الله - تعالى - فى هذا المعنى .

وقوله - سبحانه - : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } بيان لمظهر من مظاهر حكمته - تعالى - ورحمته بعباده .

والجملة الكريمة متعلقة بما قبلها ، وهو قوله - سبحانه - : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً } أى : جعلنا النهار مضيئا ، لتطلبوا فيه ما تحتاجونه من أمور معاشكم ، ومن الأرزاق التى قسمها الله بينكم .

قال الآلوسى ما ملخصه : وفى التعبير عن الرزق بالفضل ، وعن الكسب بالابتغاء : دلالة على أنه ليس للعبد فى تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب ، وإنما الإِعطاء من الله - تعالى - بطريق التفضل . . .

وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله - تعالى - : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فقوله - تعالى - : { لتسكنوا فيه } يعود إلى الليل . وقوله - تعالى - : { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعود على النهار .

ثم بين - سبحانه - حكمة أخرى ونعمة أخرى لجعله الليل والنهار على هذه الهيئة فقال : { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } .

أى : وجعلنا الليل والنهار على هذه الصفة من التعاقب والاختلاف فى الطول والقصر لتعرفوا عن طريق ذلك عدد الأيام والشهور والأعوام ، التى لا تستغنون عن معرفتها فى شئون حياتكم ، ولتعرفوا - أيضا - الحساب المتعلق بها فى معاملاتكم ، وبيعكم وشرائكم ، وأخذكم وعطائكم ، وصلاتكم ، وصيامكم ، وزكاتكم ، وحجكم ، وأعيادكم . . وغير ذلك مما تتوقف معرفته على تقلب الليل والنهار . وولوج أحدهما فى الآخر .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } .

والتفصيل : من الفصل بمعنى القطع . والمراد به هنا : الإِبانة التامة للشئ بحيث يظهر ظهورا لا خفاء معه ولا التباس .

ولفظ { كل } منصوب على الاشتغال بفعل يفسره ما بعده .

أى : وفصلنا كل شئ تحتاجون إليه فى أمور دينكم ودنياكم ، تفصيلا ، واضحا جليا ، لا خفاء معه ولا التباس ، فقد أقمنا هذا الكون على التدبير المحكم ، وعلى الصنع المتقن ، وليس على المصادفات التى لا تخضع لنظام أو ترتيب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات ؛ والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين ؛ والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب ، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد ، ومن قواعد العمل والجزاء ؛ والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم . .

من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود ، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم ، وجهدهم وجزاءهم ، وكسبهم وحسابهم ، فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى ، محكومة بالنواميس ذاتها ، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف ، دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار ؛ مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار :

( وجعلنا الليل والنهار آيتين ، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ، لتبتغوا فضلا من ربكم ، ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ؛ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ؛ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ، وما كان عطاء ربك محظورا . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) . .

فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار ، يرتبط به سعي الناس للكسب . وعلم السنين والحساب . ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر . وترتبط به عواقب الهدى والضلال ، وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى . ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا . وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها . وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة . . كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل ، ونظام لا يتحول فليس شيء من هذا كله جزافا .

( وجعلنا الليل والنهار آيتين ، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ، لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ، وكل شيء فصلناه تفصيلا ) . .

والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة ، ولا يدركه التعطل مرة واحدة ، ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار . فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار ? يبدو - والله أعلم - أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفي فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح . . فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء ؛ وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار .

ذلك المحو لليل والبروز للنهار ( لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) . . فالليل للراحةوالسكون والجمام ، والنهار للسعي والكسب والقيام ، ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين ، ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات . ( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف . ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل ، وهي عليه شاهد ودليل .

بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات{[17239]} والأعمال والأسفار ، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك ؛ ولهذا قال : { لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } أي : في معايشكم{[17240]} وأسفاركم ونحو ذلك { وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فإنه لو كان الزمان كله نسقًا واحدًا وأسلوبًا متساويًا لما عرف شيء من ذلك ، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 71 - 73 ] ، وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 61 ، 62 ]وقال تعالى : { وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ المؤمنون : 80 ] ، وقال : { يُكَوِّرُ{[17241]} اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ الزمر : 5 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] ، وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 37 ، 38 ] .

ثم إنه تعالى جعل لليل آية ، أي : علامة يعرف بها{[17242]} وهي الظلام وظهور القمر فيه ، وللنهار علامة ، وهي النور وظهور{[17243]} الشمس النيرة فيه ، وفاوت بين ضياء القمر وبرهان الشمس ليعرف هذا من هذا ، كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ } إلى قوله : { لآيَاتٍ{[17244]} لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [ يونس : 5 ، 6 ] ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } الآية [ البقرة : 189 ] .

قال ابن جُرَيْج ، عن عبد الله بن كثير في قوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } قال : ظلمة الليل وسُدفة{[17245]} النهار .

وقال ابن جريج عن مجاهد : الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك{[17246]} خلقه الله تعالى .

وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ، والشمس آية النهار { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } السواد الذي في القمر .

وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة : أن ابن الكَوَّاء سأل [ أمير المؤمنين ]{[17247]} علي ابن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، ما هذه اللطخة التي في القمر ؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن ؟ { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } فهذه محوه .

وقال قتادة في قوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } كنا نحدث أن{[17248]} محو آية الليل سواد القمر الذي فيه ، وجعلنا آية النهار مبصرة ، أي : منيرة ، خلق الشمس أنور من القمر وأعظم .

وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ } قال : ليلا ونهارًا ، كذلك خلقهما الله ، عز وجل{[17249]} .


[17239]:في ت، ف، أ: "والصنائع".
[17240]:في ت، ف: "معاشكم".
[17241]:في ت: "ويكور" وهو خطأ.
[17242]:في ت: "يعرفونها".
[17243]:في ت، ف: "وطلوع".
[17244]:في ف، أ: (إن في ذلك لآيات) وهو خطأ.
[17245]:في ت، ف، أ: "وسدف".
[17246]:في ف: "ولذلك".
[17247]:زيادة من ف، أ.
[17248]:في ت: "ما نجد كان".
[17249]:في ف: "الله تعالى".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

عطف على { ويدع الإنسان بالشر } [ الإسراء : 11 ] ، الخ . والمناسبة أن جملة { ويدع الإنسان } تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلاً ، ولما كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملاً على ليللٍ ونهارٍ متقضّييَنْ . وهذا شائع عند الناس في أن الزمان مُتقض وإن طال .

فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة ، وكونهما منتين على الناس ، وكون الناس ربما كرهوا الليل لظلمته ، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم ، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان ، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير في النهار . واكتفي بعدِّها عن عدّ نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة ، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمةً أو كله نوراً لم يحصل التمييز بين أجزائه .

وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكُفر والإيمان ، وللضلال والهدى ، فلذلك عُقب به قوله : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] الآية ، وقوله : { إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم } إلى قوله : { أعتدنا لهم عذاباً } [ الإسراء : 9 10 ] ، ولذلك عقب بقوله بعده { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الآية [ الإسراء : 15 ] . وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شأن بلاغة القرآن وإيجازه .

وتفريع جملة { فمحونا آية الليل } اعتراض وقع بالفاء بين جملة { وجعلنا الليل والنهار } وبين متعلقة وهو { لتبتغوا } .

وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية ، أي الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار . ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له وهي القمر ، وآية النهار الشمس ، فتكون إعادة لفظ ( آية ) فيهما تنبيهاً على أن المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقيّة ، ويصير دليلاً آخر على بديع صنع الله تعالى وتذكيراً بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين . ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كُرَتِهِ ، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوؤها سببَ إبصار الناس الأشياء ، ف { مبصرة } اسم فاعل ( أبصر ) المتعدي ، أي جعل غيره باصراً . وهذا أدق معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلماً فإن هذه حقيقة من علم الهيئة ، وما أعيد لفظ ( آية ) إلا لأجلها .

والمحو : الطمس . وأطلق على انعدام النور ، لأن النور يُظهر الأشياء والظلمة لا تظهر فيها الأشياءُ ، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله : { وجعلنا آية النهار مبصرة } ، أي جعلنا الظلمة آية وجعلنا سبب الإبصار آية . وأطلق وصف { مبصرة } على النهار على سبيل المجاز العقلي إسناداً للسبب .

وقوله : { لتبتغوا فضلا من ربكم } عِلة لخصوص آية النهار من قوله : { آيتين }

وجاء التعليل لحكمة آية النهار خاصةً دون ما يقابلها من حكمة الليل لأن المنة بها أوضح ، ولأن من التنبه إليها يحصل التنبه إلى ضدها وهو حكمة السكون في الليل ، كما قال : { لتسكنوا فيه والنهار مبصراً } كما تقدم في سورة [ يونس : 67 ] .

ثم ذكرت حكمة أخرى حاصلة من كلتا الآيتين . وهي حكمة حساب السنين ، وهي في آية الليل أظهر لأن جمهور البشر يضبط الشهور والسنين بالليالي ، أي حساب القمر .

والحساب يشمل حساب الأيام والشهور والفصول فعطفه على عدد السنين } من عطف العام على الخاص للتعميم بعد ذكر الخاص اهتماماً به .

وجملة { وكل شيء فصلناه تفصيلا } تذييل لقوله : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } باعتبار ما سيق له من الإشارة إلى أن للشر والخير الموعود بهما أجلاً ينتهيان إليه . والمعنى : أن ذلك الأجل محدود في علم الله تعالى لا يعدوه ، فلا يقرّبه استعجال ولا يؤخره استبطاء لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً لا إبهام فيه ولا شك عنده .

أن للخير وللشر مَدى{[268]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فلا تحسبوا ذلك وعداً سُدى .

والتفصيل : التبيين والتمييز وهو مشتق من الفصل بمعنى القطع لأن التبيين يقتضي عدم التباس الشيء بغيره . وقد تقدم في قوله تعالى : { كتاب أحكمت آياته ثم فُصلت } صدر [ هود : 1 ] .

والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها ، ونظامها ، وعلِم الله بها ، وإعلامه بها . فالتفصيل الذي في علم الله وفي خلقه ونواميس العوالم عام لكل شيء وهو مقتضى العموم هنا . وأما ما فصله الله للناس من الأحكام والأخبار فذلك بعض الأشياء ، ومنه قوله تعالى : يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون [ الرعد : 2 ] وقوله : { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] . وذلك بالتبليغ على ألسنة الرسل وبما خلق في الناس من إدراك العقول ، ومن جملة ما فصله للناس الإرشاد إلى التوحيد وصالح الأعمال والإنذار على العصيان . وفي هذا تعريض بالتهديد .

وانتصب { كل شيء } بفعل مضمر يفسره { فصلناه } لاشتغال المذكور بضمير مفعول المحذوف .


[268]:- صدر بيت وتمامه: وكلا ذلك وجه وقبل وهو لعبد الله بن الزبعري.