الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

قوله تعالى : { آيَتَيْنِ } : يجوز أن يكونَ هو المفعولَ الأولَ ، و { الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ } ظرفان في موضع الثاني قُدِّما على الأول ، والتقدير : وجَعَلْنا آيتين في الليلِ والنهار ، والمرادُ بالآيتين : إمَّا الشمسُ والقمرُ ، وإمَّا تكويرُ هذا على هذا ، وهذا على هذا ، ويجوز أنْ يكونَ " آيَتَيْن " هو الثاني ، و { الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ } هما الأول . ثم فيه احتمالان ، أحدُهما : أنه على حَذْفِ مضافٍ :/ إمَّا من الأولِ ، أي : نَيَّرَي الليل والنهار ، وهما القمرُ والشمسُ ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذَوِي آيتين . والثاني : أنه لا حَذْفَ ، وأنهما علامتان في أنفسِهما ، لهما دلالةٌ على شيءٍ آخرَ . قال أبو البقاء : " فلذلك أضافَ في موضعٍ ، وَوَصف في آخر " يعني أنه أضافَ الآيةَ إليهما في قولِه { آيَةَ الْلَّيْلِ } و { الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ } ووصفَهما في موضعٍ آخرَ بأنهما اثنان لقولِه : " وجَعَلْنا الليلَ والنهارَ آيتين " . هذا كلُّه إذا جَعَلْنَا الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين ، فإن جَعَلْناه بمعنى " خَلَقْنا " كان " آيتين " حالاً ، وتكونُ حالاً مقدرة .

واستشكل بعضُهم أَنْ يكونَ " جَعَلَ " بمعنى صَيَّر قال : " لأنه يَسْتَدْعِيْ أن يكونَ الليلُ والنهارُ موجودَيْن على حالةٍ ، ثم انتقل عنها إلى أخرى " .

قوله : " مُبْصِرَةً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مِنْ الإِسنادِ المجازيِّ ، لأنَّ الإِبصارَ فيها لأهلِها ، كقولِه : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً } [ الإِسراء : 59 ] لمَّا كانت سبباً للإِبْصار . وقيل : " مُبْصِرة " : مضيئةً ، وقيل : هي من بابِ اَفْعَل ، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم : " أَضْعَفَ الرجلُ " ، أي : ضَعُفَتْ ماشِيتُه ، و " أَجْبن " إذا كان أهلُه جبناء ، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء .

وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ " مَبْصَرة " بفتح الميم والصاد ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنة نحو : " مَذْأَبَة " .

قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ على الاشتغال ، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية . وكذلك { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ }

[ الإِسراء : 13 ] . والثاني : - وهو بعيد - أنه منصوبٌ نَسَقاً على " الحِسابَ " ، أي : لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً ، ويكون " فَصَّلْناه " على هذا صفةً .

وقرئ " في عُنْقِه " وهو تخفيفٌ شائعٌ .