البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا} (12)

{ وجعلنا الليل والنهار آيتين } لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلاّ به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي ، وأيضاً لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاص .

والظاهر أن { الليل والنهار } مفعول أول لجعل بمعنى صير ، و { آيتين } ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة ، وتكون الإضافة في { آية الليل وآية النهار } للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود ، أي { فمحونا } الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة .

وقيل : هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، وقدّره بعضهم و : جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار ، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر ، ويظهر أن { آيتين } هو المفعول الأول ، و { الليل والنهار } ظرفان في موضع المفعول الثاني ، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين .

وقال الكرماني : ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى ، ولا بمعنى سمى وحكم ، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم ، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر ، وضوء النهار وظلمة الليل { فمحونا آية الليل } إذا قلنا أنّ الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه ، بل خلق أسود أول حاله ولا تقتضي الفاء تعقيباً وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس .

وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمس والقمر ، فقيل : محو القمر كونه لم يجعل له نوراً .

وقيل : محوه طلوعه صغيراً ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر .

وقيل : محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة ، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد ، وجعل ما محا منه زائداً في نور الشمس ، وهذا مروي عن عليّ وابن عباس .

وقال ابن عيسى : جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب .

قال : وهذا من البلاغة الحسنة جداً .

وقال الزمخشري : { فمحونا آية الليل } أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه ، مظلماً لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ، وجعلنا النهار مبصراً أي يبصر فيه الأشياء وتستبان ، أو { فمحونا آية الليل } التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء انتهى .

ونسب الإبصار إلى { آية النهار } على سبيل المجاز كما تقول : ليل قائم ونائم ، أي يقام فيه وينام فيه .

فالمعنى يبصر فيها .

وقيل : معنى { مبصرة } مضيئة .

وقيل : هو من باب أفعل ، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقولهم : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء ، وأضعف إذا كان دوابه ضعافاً فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء .

وقرأ قتادة وعليّ بن الحسين { مبصرة } بفتح الميم ، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الاسم ، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم : أرض مسبعة ومكان مضبة ، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب ، وولى التعليل بالابتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل .

وجاء في قوله : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله } البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة ، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما .

ومعنى { لتبتغوا } لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم { والحساب } للشهور والأيام والساعات ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار { وكل شيء } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فصلناه } بيناه تبيينا غير ملتبس ، والظاهر أن نصب { وكل شيء } على الاشتغال ، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله : { وجعلنا الليل والنهار } وأبعد من ذهب إلى أن { وكل شيء } معطوف على قوله : { والحساب } والطائر .