قوله تعالى : { أم نحن المنشئون نحن جعلناها } خلقناها يعني نار الدنيا ، { تذكرة } للنار الكبرى إذا رآها الرائي ذكر جهنم ، قاله عكرمة ومجاهد ومقاتل . وقال عطاء : موعظة يتعظ بها المؤمن .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً " . { ومتاعاً } بلغة ومنفعة . { للمقوين } المسافرين ، والمقوي : النازل في الأرض والقي والقواء هو : القفر الخالية البعيدة من العمران ، يقال : قوت الدار إذا خلت من سكانها . والمعنى : ينتفع بها أهل البوادي والأسفار ، فإن منفعتهم بها أكثر من منفعة المقيم وذلك أنهم يوقدون بها ليلاً لتهرب منهم السباع ويهتدي بها الضلال وغير ذلك من المنافع ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد وعكرمة : { للمقوين }يعني : للمستمتعين بها من الناس أجمعين ، المسافرين والحاضرين ، يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد ، وينتفعون بها في الطبخ والخبز . قال الحسن : بلغة للمسافرين ، يتبلغون بها إلى أسفارهم ، يحملونها في الخرق والجواليق . وقال ابن زيد : للجائعين ، تقول العرب : أقويت منذ كذا وكذا ، أي : ما أكلت شيئاً . قال قطرب : المقوي من الأضداد ، يقال للفقير : مقو لخلوه من المال ، وللغني : مقو ، لقوته على ما يريد ، يقال : أقوى الرجل إذا قويت دوابه وكثر ماله وصار إلى حالة القوة . والمعنى أن فيها متاعاً للأغنياء والفقراء جميعاً لا غنى لأحد عنها .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الدليل الرابع على قدرته - تعالى - على البعث والنشور ، فقال - تعالى - : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .
وقوله : { تُورُونَ } أى : توقدون ، من أورى النار إذا قدحها وأوقدها . ويقال : وَرَى الزندُ يَرِى وَرْيًا ، إذا خرجت ناره - وفعله من باب وعى - وأوراه غيره إذا استخرج النار منه .
وقوله : { لِّلْمُقْوِينَ } مأخوذ من أقوى الرجل إذا دخل فى القواء ، وهو الفضاء الخالى من العمران ، والمراد بهم هنا المسافرون ، لأنهم فى معظم الأحيان يسلكون فى سفرهم الصحارى والفضاء من الأرض .
وخصهم - سبحانه - بالذكر ، لأنهم أكثر من غيرهم انتفاعا بالنار ، وأحوج من غيرهم إليها .
والمراد بشجرة النار : المرخ والعفار ، وهما شجرتان ، يقدح غصن إحدهما بغصن الأخرى فتتولد النار منهما بقدرة الله - تعالى - .
ومن أمثال العرب : لكل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أى : وعلا على غيرهما المرخ والعفار لأنهما أكثر الشجر نصيبا فى استخراج النار ، فهو مثل يضرب فى تفضيل الشىء على غيره .
والمعنى : وأخبرونى - أيضا - عن النار التى تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب الأخضر ، أأنتم خلقتم شجرتها ، واخترعتم أصلها ، أم نحن الخالقون لها وحدنا ؟
لا شك أن الجواب الذى لا جواب غيره ، أننا نحن الذين أنشأنا شجرتها لا أنتم .
ونحن الذين جعلناها تذكرة ، تذكر الناس بها فى دار الدنيا إذا أحسوا بشدة حرارتها ، بنار الآخرة التى هى أشد وأبقى ، حتى يقلعوا عن الأقوال والأفعال التى تؤدى بهم إلى نار الآخرة .
ونحن - أيضا - الذين جعلنا هذه النار { مَتَاعاً } أى منفعة { لِّلْمُقْوِينَ } أى للمسافرين ، والذين هم فى حاجة إليها فى شئونهم المختلفة .
وقوله : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال مجاهد ، وقتادة : أي تُذَكّر النارَ الكبرى .
قال قتادة : ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا قوم ، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم " . قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ! قال : " قد ضُربت بالماء ضربتين - أو : مرتين - حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها " {[28139]} .
وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال :
حدثنا سفيان ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد " {[28140]} .
وقال الإمام مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم " . فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية فقال : " إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا " .
رواه البخاري من حديث مالك ، ومسلم ، من حديث أبي الزناد{[28141]} ، ورواه مسلم ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، به{[28142]} . وفي لفظ : " والذي نفسي بيده ، لقد فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها " .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا مَعْن بن عيسى القزاز ، عن مالك ، عن عمه أبي السهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادًا من [ دخان ]{[28143]} ناركم هذه بسبعين ضعفًا " {[28144]} .
قال الضياء المقدسي : وقد رواه ابن {[28145]} مصعب عن مالك ، ولم يرفعه ، وهو عندي على شرط الصحيح .
وقوله : { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والنضر بن عربي : معنى { لِلْمُقْوِينَ } المسافرين ، واختاره ابن جرير ، وقال : ومنه قولهم : " أقوت الدار إذا رحل أهلها " .
وقال غيره : القيّ والقَوَاء : القفر الخالي البعيد من العمران .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقوي هنا الجائع .
وقال ليث ابن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } للحاضر والمسافر ، لكل طعام لا يصلحه إلا النار . وكذا روى سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : { لِلْمُقْوِينَ } المستمتعين ، الناس أجمعين . وكذا ذكر عن عكرمة .
وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل{[28146]} محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع . ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار ، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها سائر الانتفاعات . فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامًّا في حق الناس كلهم . وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خِدَاش حَبَّان بن زَيد الشَّرعَبي الشَّامي ، عن رجل من المهاجرين من قَرَن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء " {[28147]} .
وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ لا يُمْنَعْنَ : الماء والكلأ والنار " {[28148]} .
وله من حديث ابن عباس مرفوعًا مثل هذا وزيادة : " وثمنه حرام " {[28149]} . ولكن في إسناده " عبد الله بن خِرَاش بن حَوْشب " وهو ضعيف ، والله أعلم .
وقوله : نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً يقول : نحن جعلنا النار تذكرة لكم تذكرون بها نار جهنم ، فتعتبرون وتتعظون بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : تَذْكِرَةً قال : تذكرة النار الكبرى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أفَرأيْتُمُ النّارَ التي تُورُونَ أأَنْتُمْ أنْشأْتُمْ شَجَرَتها أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً للنار الكبرى .
ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «نارُكُمْ هَذِهِ التي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزءا مِنْ نارِ جَهَنّمِ ، » قالوا : يا نبيّ الله إن كان لكافية ، قال : «قَدْ ضُرِبَتْ بالمَاءِ ضَرْبَتَيْن أوْ مَرّتَينِ ، ليَسْتَنْفِعَ بِها بَنُوا آدَمَ وَيَدْنُو مِنْها » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد تَذْكِرَةً قال : للنار الكبرى التي في الاَخرة .
وقوله : وَمَتاعا للْمُقْوِينَ اختلف أهل التأويل في معنى المقوين ، فقال بعضهم : هم المسافرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : للّمُقْوِينَ قال : للمسافرين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَتاعا للْمُقْوِينَ قال : يعني المسافرين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَتاعا للْمُقْوِينَ قال للمُرْمل : المسافر .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : للْمُقْوِينَ قال : للمسافرين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمَتاعا للْمُقْوِينَ قال : للمسافرين .
وقال آخرون : عُنِي بالْمُقْوِين : المستمتعون بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قوله : وَمَتاعا للْمُقْوِينَ للمستمتعين الناس أجمعين .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد وَمَتاعا للْمُقْوِينَ للمستمتعين المسافر والحاضر .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشر ، عن خصيف في قوله : وَمَتاعا للْمُقْوِينَ قال : للخلق .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : الجائعون . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قوله : وَمَتاعا للْمُقْوِينَ قال : المقوي : الجائع . في كلام العرب ، يقول : أقويت منه كذا وكذا : ما أكلت منه كذا وكذا شيئا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال : عُنِي بذلك للمسافر الذي لازاد معه ، ولا شيء له ، وأصله من قولهم : أقوت الدار : إذا خلت من أهلها وسكانها كما قال الشاعر :
أقْوَى وأقْفَرَ مِنْ نُعْمٍ وغَيّرَها *** هُوجُ الرّياحِ بهابي التّرْبِ مَوّارِ
يعني بقوله : «أقوى » : خلا من سكانه ، وقد يكون المقوي : ذا الفرس القويّ ، وذا المال الكثير في غير هذا الموضع .
و : { تذكرة } معناه : تذكر نار جهنم ، قاله مجاهد وقتادة . والمتاع : ما ينتفع به . و " المقوين " في هذه الآية : الكائنون في الأرض القواء ، وهي الفيافي ، وعبر الناس في تفسير { المقوين } بأشياء ضعيفة ، كقول ابن زيد للجائعين ونحوه .
ولا يقوى منها ما ذكرناه ، ومن قال معناه : للمسافرين ، فهو نحو ما قلناه ، وهي عبارة ابن عباس رضي الله عنه تقول : أصبح الرجل ، دخل في الصباح . وأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى دخل في الأرض القواء ، ومنه أقوت الدار ، وأقوى الطلل : أي صار قواء ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]
أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ . . . {[10925]}
أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم . . . {[10926]}
والفقير والغني إذا أقوى سواء في الحاجة إلى النار ، ولا شيء يغني غناءها في الصرد ، ومن قال : إن أقوى من الأضداد من حيث يقال : أقوى الرجل إذا قويت دابته فقد أخطأ وذلك فعل آخر كأترب إذا أترب .
الجملة بدل اشتمال من جملة { أم نحن المنشئون } [ الواقعة : 72 ] ، أي أنَّ إنشاء النار كان لفوائد وحِكماً منها أن تكون تذكرة للناس يذكرون بها نار جهنم ويوازنون بين إحراقها وإحراق جهنم التي يعلمون أنها أشد من نارهم .
والمتاع : ما يُتمتع ، أي ينتفع به زماناً ، وتقدم في قوله : { قل متاع الدنيا قليل } في سورة النساء ( 77 ) .
والمُقوِي : الداخل في القَواء ( بفتح القاف والمد ) وهي القفر ، ويطلق المُقوي على الجائع لأن جوفه أقوت ، أي خلقت من الطعام إذ كلا الفعلين مشتق من القَوى وهو الخلاء . وفراغ البطن : قواء وقوى . فإيثار هذا الوصف في هذه الآية ليجمع المعنيين فإن النار متاع للمسافرين يستضيئون بها في مناخهم ويصطلون بها في البَرد ويراها السائر ليلاً في القَفر فيهتدي إلى مكان النُّزَّل فيأوي إليهم ، ومتاع للجائعين يطبخون بها طعامهم في الحضر والسفر ، وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال . واختير هذان الوصفان لأن احتياج أصحابهما إلى النار أشد من احتياج غيرهما .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{نحن جعلناها} هذه النار التي في الدنيا {تذكرة} لنار جهنم الكبرى {و} هي {ومتاعا للمقوين} يعني متاعا للمسافرين لمن كان بأرض فلاة وللأعراب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً "يقول: نحن جعلنا النار تذكرة لكم تذكرون بها نار جهنم، فتعتبرون وتتعظون بها...
وقوله: "وَمَتاعا للْمُقْوِينَ" اختلف أهل التأويل في معنى المقوين؛
وقال آخرون: عُنِي بالْمُقْوِين: المستمتعون بها...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: الجائعون...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عُنِي بذلك للمسافر الذي لا زاد معه، ولا شيء له، وأصله من قولهم: أقوت الدار: إذا خلت من أهلها وسكانها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل أن يكون {نحن جعلناها} أي هذه النعم الحاضرة {تذكرة} للنعم الموعودة، أو جعلنا هذه الشدائد والبلايا في الدنيا تذكرة لما أوعدنا في الآخرة، والله أعلم. وقوله تعالى: {ومتاعا للمقوين} قال بعض أهل التأويل: أي متاعا للمسافرين؛ خص المسافرين لنزولهم القواء، وهو القفر...
المقوي الذي لا زاد له. وقيل: الذي يقع في أرض قواء، والقواء الأرض الخالية من الناس...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَذْكِرَةً} تذكيراً لنار جهنهم، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم... {ومتاعا} ومنفعة {لّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء وهي القفر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من أيام، أي لم آكل شيئاً.
... وفيه لطيفة وهو أنه تعالى قدم كونها تذكرة على كونها متاعا ليعلم أن الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومتاعاً} أي إنشاءً وبقاءً وتعميراً ونفعاً وإيصالاً إلى غاية المراد من الاستضاءة والاصطلاء والإنضاج والتحليل والإذابة والتعقيد والتكليس، وهروب السباع وغير ذلك، والمراد أنها سبب لجميع ذلك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة بدل اشتمال من جملة {أم نحن المنشئون} [الواقعة: 72]، أي أنَّ إنشاء النار كان لفوائد وحِكماً منها أن تكون تذكرة للناس يذكرون بها نار جهنم ويوازنون بين إحراقها وإحراق جهنم التي يعلمون أنها أشد من نارهم.
والمتاع: ما يُتمتع، أي ينتفع به زماناً، وتقدم في قوله: {قل متاع الدنيا قليل} في سورة النساء (77).
والمُقوِي: الداخل في القَواء (بفتح القاف والمد) وهي القفر، ويطلق المُقوي على الجائع لأن جوفه أقوت، أي خلقت من الطعام إذ كلا الفعلين مشتق من القَوى وهو الخلاء. وفراغ البطن: قواء وقوى. فإيثار هذا الوصف في هذه الآية ليجمع المعنيين فإن النار متاع للمسافرين يستضيئون بها في مناخهم ويصطلون بها في البَرد ويراها السائر ليلاً في القَفر فيهتدي إلى مكان النُّزَّل فيأوي إليهم، ومتاع للجائعين يطبخون بها طعامهم في الحضر والسفر، وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال. واختير هذان الوصفان لأن احتياج أصحابهما إلى النار أشد من احتياج غيرهما.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة...لقد قفز اكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي. نعم هذه الحقائق جميعاً عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين).