قوله تعالى : { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها } أي : في الدنيا { وباطل } ، ما حق ، { ما كانوا يعملون } . اختلفوا في معنى هذه الآية : قال مجاهد : هم أهل الرياء . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء " . قيل : هذا في الكفار ، وأما المؤمن : فيريد الدنيا والآخرة ، وإرادته الآخرة غالبة فيجازي بحسناته في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة . وروينا عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً " .
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم فى الآخرة فقال : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أى : أولئك الذين أرادوا بأقوالهم وأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ، ليس لهم فى الآخرة إلا النار ، لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة فى الدنيا وبقيت عليهم أوزار نياتم السيئة فى الآخرة .
{ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } أى : وفسد ما صنعوه فى الدنيا من أعمال الخير ، لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله - تعالى - وإنما قصدوا بها الرياه ورضى الناس . . .
وقوله { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : وباطل فى نفسه ما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال ظاهرها البر والصلاح ، لأنه لا ثمرة له ولا ثواب فى الآخرة لأن الأعمال بالنيات ، ونيات هؤلاء المرائين ، لم تكن تلتفت إلى ثواب الله ، وإنما كانت متجهة اتجاها كليا إلى الحياة الدنيا وزينتها ، إلى رضاء المخلوق لا الخالق .
وشبيهة بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } وقوله - تعالى - : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً . وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً . كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً . انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } هذا ومن العلماء من يرى أن هاتين الآيتين مسوقتان فى شأن الكفار ومن على شاكلتهم من الضالة كاليهود والنصارى والمنافقين .
. . لأن قوله - تعالى - { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار . . . } لا يليق إلا بهم .
والذى نراه أن هاتين الآيتين تتناولان الكفار ومن على شاكلتهم تناولا أوليا ، ولكن هذا لا يمنع من أنهما يندرج تحت وعيدهما كل من قصد بأقواله وأعماله الحياة الدنيا وزينتها ، ونبذ كل معانى الإِخلاص والطاعة لله رب العالمين .
ومما يشهد لذلك أن هناك أحاديث كثيرة ، حذرت من الرياء ، وتوعدت مقترفة بأشد بأنواع العقوبات ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو داود عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " - أى رائحتها - .
وصفوة القول : أن الآيتين الكريمتين تسوقان سنة من سنن الله مع عباده فى هذه الدنيا ، هى أن الله - تعالى - لا ينقص الناس شيئا من ثمار جهودهم وأعمالهم فى هذه الدنيا ، إلا أن هذه الجهود وتلك الأعمال التى ظاهرها الصلاح ، إن كان المقصود بها الحياة الدنيا وزينتها وجدوا نتائجها فى الدنيا فحسب .
وإن كان المقصود بها رضا الله - تعالى - وثواب الآخرة ، وجدوا ثمارها ونتائجها الحسنة يوم القيامة ، بجانب تمتعهم بما أحله الله لهم فى الدنيا من طيبات .
وذلك لأن العمل للحياة الأخرى - فى شريعة الإِسلام - لا يحول بين العمل النافع فى الحياة الدنيا ، ولا ينقص شيئا من آثاره وثماره ، بل إنه يزكيه وينميه ويباركه . . ورحم الله القائل : ليس أحد يعمل حسنة إلا وُفِّى ثوابها فإن كان مسلما مخلصا وُفِّى ثوابها فى الدنيا والآخرة ، وإن كان كافرا وفى ثوابها فى الدنيا .
( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون )
ولكن ليس له في الآخرة إلا النار ، لأنه لم يقدم للآخرة شيئا ، ولم يحسب لها حسابا ، فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا . ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط [ من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض ] وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك !
ونحن نشهد في هذه الأرض أفرادا اليوم وشعوبا وأمما تعمل لهذه الدنيا ، وتنال جزاءها فيها . ولدنياها زينة ، ولدنياها انتفاخ ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل : لماذا ؟ لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) .
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه - ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع - فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئا ، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى .
إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا . بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه . ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره ؛ بل تزيد وتبارك الجهد والثمر ، وتجعل الكسب طيبا والمتاع به طيبا ، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة . إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام . وهذه مردية لا في الأخرى فحسب ، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين . وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد . وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون .
قال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا ، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا ، صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل ، لا يعمله{[14523]} إلا التماس الدنيا ، يقول الله : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
وهكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد .
وقال أنس بن مالك ، والحسن : نزلت في اليهود والنصارى . وقال مجاهد وغيره : نزلت في أهل الرياء{[14524]} .
وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وَسَدَمه{[14525]} وطَلِبَته ونيته ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء . وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .
وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا{[14526]} .
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [ الإسراء : 18 - 21 ]{[14527]} ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين ذكرت أنا نوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إلاّ النارُ يصلونها ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها يقول : وذهب ما عملوا في الدنيا ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنهم كانوا يعملون لغير الله ، فأبطله الله وأحبط عامله أجره .
{ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } مطلقا في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة . { وحبط ما صنعوا فيها } لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة ، أو أم يكن لأنهم لم يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإخلاص ، ويجوز تعليق الظرف ب { صنعوا } على أن الضمير ل { الدنيا } . { وباطل } في نفسه . { ما كانوا يعملون } لأنه لم يعمل على ما ينبغي ، وكأن كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها . وقرئ " باطلا " على انه مفعول يعملون و{ ما } إبهامية أو في معنى المصدر كقوله :
ولا خارجاً من في زُور كلام *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جملة { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار } مستأنفة ، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين ، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة . وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله : { أولَئِكَ عَلى هُدى منْ ربّهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
و { إلاّ النار } استثناء مفرّغ من { ليس لهم } أي ليس لهم شيء ممّا يعطاه الناس في الآخرة إلاّ النار . وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا .
والحَبْط : البطلان أي الانعدام .
والمراد ب { ما صنعوا } ما عملوا ، ومن الإحسان من الدنيا كإطعام العُفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضاً ، ولذلك عبر هنا ب { صنعوا } لأنّ الإحسان يسمى صنيعة .
وضمير { فيها } يجوز أن يعود إلى { الدنيا } المتحدث عنها فيتعلّق المجرور بفعل { صنعوا } . ويجوز أن يعود إلى { الآخرة } فيتعلق المجرور بفعل ( بطل ) ، أي انعدم أثره . ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة « أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا » والباطل : الشيء الذي يذهب ضياعاً وخسراناً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أَخبَر بمَنزِلتهم في الآخِرة، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} يقول: بَطَلَ في الآخِرة ما عمِلوا في الدنيا،
{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فلم يَقْبَلْ منهم أعمالَهم؛ لأنهم عمِلوها للدنيا، فلم تَنفعْهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنا نوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا "لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إلاّ النارُ "يصلونها، "وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها" يقول: وذهب ما عملوا في الدنيا، "وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ" لأنهم كانوا يعملون لغير الله، فأبطله الله وأحبط عامله أجره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...قوله "أولئك "كناية عن الذين ذكرهم في الآية الأولى، وهم الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها، دون ثواب الآخرة. فأخبر الله أنه ليس لهم في الآخرة مستقر إلا النار، وأن أعمالهم كلها محبطة لا يستحقون عليها ثوابا، لأنهم أوقعوها على غير الوجه المأمور به، وعلى حد لا تكون طاعة، وأن جميع ما فعلوه في الدنيا باطل لا ثواب عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لَمّا بيَّن حالَهم في الدنيا، بيَّن حالَهم في الأخرى مشيراً بأداة البُعْدِ إلى أنهم أهلُ البُعْد واللّعنةِ والطَّردِ في قوله نتيجةً لِما قبلَه: {أُولَئِكَ} أي البُعَداءُ البُغَضاءُ {الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ} أيُّ شيءٍ من الأشياء {فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}.. {وَحَبِطَ}... {ما صَنَعُوا فِيهَا} أي مَصْنوعُهم أو صُنْعُهم أي لبنائه على غير أساسٍ؛ ولَمّا كان تقييدُ الحُبوطِ بالآخِرة ربّما أَوْهَمَ أنه شيءٌ في نفسه قال: {وَبَاطِلٌ} أي ثابتُ البُطْلانِ في كلٍّ من الدارَيْن {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي مَعمولُهم أو عمَلُهم وإنْ دَأبوا فيه دَأْبَ من هو مطبوعٌ عليه لأنه صورةٌ لا معنى لها لبنائه على غير أساسٍ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أُولَئِكَ} فإنه إشارةٌ إلى المذكورِين باعتبار إرادتِهم الحياةَ الدنيا أو باعتبار توْفيتِهم أجورَهم من غير بخسٍ أو باعتبارهما معاً. وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان ببُعْد منزلتِهم في سوء الحالِ... {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا}... {وَبَاطِلٌ}... {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}... ولأجْل أن الأولَ من شأنه استتباعُ الثوابِ والأجرِ وأنّ عدمَه لعدم مقارَنتِه للإيمان والنيةِ الصحيحةِ وأن الثانيَ ليس له جهةٌ صالحةٌ قطُّ عُلِّق بالأول الحُبوطُ المؤْذِنُ بسقوط أجرِه بصيغة الفِعل المُنْبئ عن الحدوث وبالثاني البُطلانُ المُفصِحُ عن كونه بحيث لا طائلَ تحته أصلاً بالاِسميّة الدالّةِ على كون ذلك وصفاً لازماً له ثابتاً فيه، وفي زيادة كان في الثاني دونَ الأولِ إيماءٌ إلى أن صدورَ البِرِّ منهم وإنْ كان لغرضٍ فاسدٍ ليس في الاستمرار والدوامِ كصدور الأعمالِ التي هي من مقدِّمات مطالبِهم الدَّنِيَّةِ... {لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ النَّارُ}... والذي تقتضيه جزالةُ النَّظْمِ الكريمِ أن المرادَ به مطلقُ الكفَرةِ بحيث يندرِجُ فيهم القادحون في القرآن العظيمِ اندراجاً أوَّليّاً فإنه عزَّ وعلَا لَمّا أمَر نبيَّه عليه الصلاةُ والسلامُ والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأنّ القرآنَ مُنْزَلٌ بِعِلم الله وبأنْ لا قُدرةَ لغيره على شيءٍ أصلاً وهيَّجهم على الثبات على الإسلام والرسوخِ فيه عند ظهورِ عجزِ الكفَرةِ وما يَدْعون من دون الله عن المعارَضة وتبيَّن أنهم ليسوا على شيءٍ أصلاً اقتضى الحالُ أن يتعرّض لبعض شؤونِهم المُوهِمةِ لكونهم على شيءٍ في الجملة من نيلهم الحظوظَ العاجلةَ واستيلائهم على المطالب الدنيويةِ وبيانِ أن ذلك بمَعْزِلٍ عن الدلالة عليه، ولقد بُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم أعيدَ الترغيبُ فيما ذُكر من الإيمان بالقرآن والتوحيدِ والإسلامِ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} أي أولئك الموصوفون بما ذكر ليس لهم في الآخرة إلى دار العذاب المسماة بالنار، لأن الجزاء فيها كالجزاء في الدنيا على الأعمال، وهم لم يعملوا لنعيم الآخرة شيئا، فإن العمل لها إنما هو تزكية النفس بالإيمان والتقوى التي هي اجتناب المعاصي والرذائل، وأعمال البر والفضائل، {وحبط ما صنعوا فيها} وفسد ما صنعوا مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم فلم يكن له تأثير في تزكية أنفسهم والقربة عند ربهم، لأنه إنما كان لأغراض نفسية من شهوات الدنيا كالرياء والسمعة والاعتزاز بأولي القربى على الأعداء ولو بالباطل، فهو كالحبط وهو بالتحريك أن تكثر الأنعام من بعض المراعي التي تستطيبها حتى تنتفخ وتفسد أحشاؤها، فظاهر كثرة الأنعام من بعض المراعي التي تستطيبها حتى تنتفخ وتفسد أحشاؤها، فظاهر كثرة الأكل أنه سبب للقوة فكان في هذه الحالة سببا للضعف، كذلك ما ظاهره البر والإحسان من أعمال الناس إذا كان الباعث عليه سوء النية مما ذكرنا {وباطل ما كانوا يعملون} أي وباطل في نفسه ما كانوا يعملونه في الدنيا، لأن لا ثمرة له ولا أجر في الآخرة، وإنما الأعمال بمقاصدها، والنتائج تابعة لمقدماتها، فإن كان في عملهم خير ونية حسنة يجازون عليه في الدنيا.
قال تعالى في تفصيل هذا الإجمال {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك. وما كان عطاء ربك محظورا {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} [الإسراء: 21] وقال معلم الخير الأعظم صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه). رواه البخاري في سبعة مواضع من صحيحه مختلفة الألفاظ ومسلم وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الدين يبيح الطيبات من المآكل والمشارب غير الضارة ويبيح الزينة في غير إسراف ولا خيلاء، وإنما يذم من يحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحانية فيجعل كل همه وحظه من وجوده في الشهوات الحيوانية التي تفضله بها الأنعام والحشرات فيفضله الثور في كثرة الأكل، والبعير في كثرة الشرب، والعصفور في كثرة السفاد، والطاووس في زينة الألوان ولمعان اللباس، ومن اختبر أهل أمصارنا في هذا العصر علم من إسرافهم في هذه الشهوات والزينة ما هو مفسد لصحتهم وأخلاقهم وبيوتهم حتى نسائهم وأطفالهم، وما حق لثروتهم، ومضعف لأمتهم ودولتهم، وما بعد ذلك إلا إضاعة آخرتهم، وترى مع هذا أن حكومتهم ومدارسهم لا تقيم للتربية الدينية وزنا وتجعل الصلاة التي هي عماد الدين اختيارية لا يلزمها أحد من معلميها ولا من تلاميذها.
ومن العجيب أن تختلف الروايات في الآيتين هل نزلتا في المشركين أم في كفار أهل الكتاب أم في المنافقين، وما نزلتا منفردتين في طائفة خاصة، بل في ضمن سورة مكية حيث لا منافقون ولا أهل كتاب، وموضوعهما عام فيمن لا يؤمن بالآخرة ولا يعملون لأجلها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره؛ بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيبا والمتاع به طيبا، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الأخرى فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}... والحَبَطُ أن يكون فسادُ العملِ أو الشيءِ من ذاته وليس من أمرٍ خارجٍ منه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ}... فقد تركوا الدنيا كلَّها وجميعَ ما فيها من لذائذَ وشهَواتٍ، وخَلّفوها وراء ظهورِهم ولم يَبْقَ لهم منها شيءٌ يستفيدون منه في دارهم الجديدة، وهذا معنى الإحباط في عُمقه الروحيِّ، {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، لأنه لا يمثِّل إلا الشيءَ الفاقدَ لمعناه، الذي لا يتضمن إلا مَلْءَ الفراغِ الوقتيِّ، من دون نتائجَ تتجاوز اللحظاتِ الزمنيّةَ التي يَمرُّ بها، فإذا ذهبتِ اللحظةُ ذهبَ العملُ، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يفكّر فيه عند الإقدام على أي عملٍ، وهو ما يَستقبِله من نتائجَ إيجابيّةٍ تَجعلُ له امتداداً في حِسابات المستقبلِ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ذِكرُ كلمةِ «الباطل» بعد كلمة «الحبط» يمكن أن تكون إِشارةً إلى أن أعمالهم لها ظاهرٌ بدون محتوىً، ولذلك تَذهب نتيجتُها أدراجَ الرياحِ...
ثمّ يضيف أن أعمالهم أساسا باطلةٌ من البداية ولا خاصيةَ لها، غايةُ ما في الأمر إنّ كثيراً من حقائق الأُمور لَمّا كانت في الدنيا غيرَ معروفةٍ فإِنّها تنكشف في الدار الآخِرة التي هي مَحَلُّ كشفِ الأسرارِ، فيتّضح أنّ هذه الأعمالَ لم يكن لها قيمةٌ منذ البداية!...