وجملة { عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } خبر عن قوله - تعالى - : { وَرَبُّكَ الأكرم } وما بينهما اعتراض ، ويصح أن تكون بدل اشتمال مما قبلها وهو قوله { عَلَّمَ بالقلم } أى : علم الإِنسان بالقلم وبدونه ما لم يكن يعلمه من الأمور على اختلافها ، والمراد بالإِنسان فى هذه الآيات جنسه .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها قد جمعت أصول الصفات الإِلهية ، كالوجود ، والوحدانية ، والقدرة والعلم ، والكرم .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : فأول شيء من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهو أول رحمة رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإِنسان من علقه ، وأن من كرمه - تعالى - أن علم الإِنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذى امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة . .
وقال المرحوم الشيخ محمد عبده : ثم إنه لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه ، من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي ، بهذه الآيات الباهرات ، فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض ، وإلى تمزيق تلك الحجب التى حجبت عن أبصارهم نور العلم . . وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع . . فلا أرشدهم الله . .
ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .
كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) . .
وهذه الحقيقة القرآنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته . بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : " زاد المعاد في هدى خير العباد " يلخص هدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ذكر الله :
" كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيته وركوبه ، وسيره ونزوله ، وظعنه وإقامته .
" وكان إذا استيقظ قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور . وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر عشرا ، وهلل عشرا ، ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا ، ثم يستفتح الصلاة . وقالت أيضا : كان إذا استيقظ من الليل قال : لا إله إلا أنت سبحانك . اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك . اللهم زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب " ذكرها أبو داود " . وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال : " لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعاء آخر استجيب له . فإن توضأ وصلى قبلت صلاته " ذكره البخاري " .
وقال ابن عباس عنه [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة مبيته عنده : إنه لما استيقظ رفع رأسه للسماء ، وقال العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران . . ( إن في خلق السماوات والأرض . . . الخ )ثم قال . . " اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والآرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق . اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت . أنت إلهي لا إله إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .
" وقد قالت عائشة - رضي الله عنها - كان إذا قام من الليل قال : " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . وربما قالت : كان يفتتح صلاته بذلك .
" وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله : سبحان الله القدوس [ ثلاثا ] ويمد بالثالثة صوته .
" وكان إذا خرج من بيته يقول : بسم الله توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل ، أو يجهل علي " [ حديث صحيح ] .
" وقال [ صلى الله عليه وسلم ] من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له : هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان " [ حديث حسن ] .
" وقال ابن عباس عنه - ليلة مبيته عنده - : إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول : اللهم اجعل في قلبي نورا ، واجعل في لساني نورا ، واجعل في سمعي نورا ، واجعل في بصري نورا ، واجعل من خلفي نورا ، ومن أمامي نورا ، واجعل من فوقي نورا ، واجعل من تحتي نورا ، اللهم أعظم لي نورا " .
" وقال فضل بن مرزوق عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري : قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة ، وإنما خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته " .
وذكر أبو داود عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم . فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم " .
وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا دخل أحدكم المسجد فليصل وليسلم على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك " . . " وذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك " . فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب فضلك .
" وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل . وكان يقول إذا أصبح : اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت ، وإليك النشور . " [ حديث صحيح ] . " وكان يقول : " أصبحنا وأصبح الملك لله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده ، وأعوذ بك من شر هذا اليوم ، وشر ما بعده ؛ رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر ، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر . وإذا أمسى قال : أمسينا وأمسى الملك لله . . " الخ [ ذكره مسلم ] .
" وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه - مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت . قال : قل : اللهم فاطر السماوات والآرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء مليكه ومالكه . أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم . قال : قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك " [ حديث صحيح ] . " ثم ذكر أحاديث كثيرة في هذا الباب " .
. . . " وكان [ صلى الله عليه وسلم ] إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء . ثم يقول : " اللهم لك الحمد ، أنت كسوتنيه ، أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " . [ حديث صحيح ] .
" ويذكر عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته : " الحمد لله الذي كفاني وآواني ، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني ، والحمد لله الذي من علي . أسألك أن تجيرني من النار " .
" وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخوله الخلاء : " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " .
وكان إذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك " ويذكر عنه أنه كان يقول : " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " [ ذكره ابن ماجة ] .
" وثبت عنه أنه وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ، ثم قال للصحابة : " توضأوا باسم الله " .
" ويذكر عنه أنه كان يقول " عند رؤية الهلال " : " اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله " [ قال الترمذي حديث حسن ] .
" وكان إذا وضع يده في الطعام قال : باسم الله . ويأمر الآكل بالتسمية ويقول : إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى ، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل : باسم الله في أوله وآخره " [ حديث صحيح ] .
وهكذا كانت حياته كلها [ صلى الله عليه وسلم ] بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى . وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .
فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .
وقوله : ( عَلّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) يقول تعالى ذكره : علّم الإنسان الخطّ بالقلم ، ولم يكن يعلمه ، مع أشياء غير ذلك ، مما علمه ولم يكن يعلمه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( عَلّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال : علّم الإنسان خَطّا بالقلم .
( علم الإنسان مالم يعلم ) بخلق القوى ، ونصب الدلائل ، وإنزال الآيات ، فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا ، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارا لما أنعم عليه من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته ، وتحقيقا لأكرميته ، وأشار أولا إلى ما يدل على معرفته عقلا ، ثم نبه على ما يدل عليها سمعا .
وجملة : { علم الإنسان ما لم يعلم } خبر عن قوله : { وربك الأكرم } وما بينهما اعتراض .
وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإِعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإِنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم .
وقد حصلتْ من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس أم بمطالعة الكتب وأن تحصيل العلوم يعتمد أموراً ثلاثة :
أحدها : الأخذ عن الغير بالمراجعة ، والمطالعة ، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية .
والثاني : التلقي من الأفواه بالدرس والإِملاء .
والثالث : ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات . وهذان داخلان تحت قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } .
وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم ، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة .
وأشعر قوله : { ما لم يعلم } أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يُعلَم من قبل ، أي فلا يُؤْيِسَنَّك من أن تصير عالماً بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف قراءة ما يكتب بالقلم . وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يُكتَب للنبيء صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً للوحي من مبدإ بعثته .
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] .
وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
علّم الإنسان الخطّ بالقلم ، ولم يكن يعلمه ، مع أشياء غير ذلك ، مما علمه ولم يكن يعلمه ....
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما : أن يكون أضاف ذلك إلى نفسه لما يخلق منهم فعل تعلمهم .
{ والثاني } : إضافته إليه للأسباب التي جعلها لهم في التعليم ، والله أعلم . ثم ذلك التعليم بالقلم لأمته لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه علمه إياه بلا كتابة ولا خط حين قال : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } ( العنكبوت : 48 ) .
ثم في تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا قلم ولا كتابة آية عظيمة لرسالته حين جعله بحال يحفظ بقلبه بلا إثبات ، ولا كتابة ، ولا خط خطه . ثم قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } يحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم....
ويحتمل قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } كل إنسان كقوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ( النحل : 78 ) . ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَلَّمهم ما لم يعلموا : الضروريَّ ، والكسبيَّ . ...
يحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك ولم يذكر واو النسق ، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول : أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات ، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحدا ويكون المعنى : علم الإنسان بالقلم ما لم يعلمه ، فيكون قوله : { علم الإنسان ما لم يعلم } بيانا لقوله : { علم بالقلم } . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ علّم } أي العلم الضروري والنظري { الإنسان } أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره ؛ بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه { ما لم يعلم } أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ....
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{ علم الإنسان ما لم يعلم } أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغا لم يبلغه سواك ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .
كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) . .
وهذه الحقيقة القرآنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته . بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : " زاد المعاد في هدى خير العباد " يلخص هدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ذكر الله :
" كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيته وركوبه ، وسيره ونزوله ، وظعنه وإقامته ...
وهكذا كانت حياته كلها [ صلى الله عليه وسلم ] بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى . وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] . وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والمهمّ في الأمر أنّ هذه الآيات نزلت على نبيّ أمي لم يتعلم القراءة والكتابة وفي بيئة اجتماعية تسودها الأمية والجهل لتتحدث أوّل ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذكر نعمة الخلق ! هذه الآيات تتحدث في الواقع أوّلاً عن تكامل «جسم» الإنسان من موجود تافه هو «العلقة» ، ثمّ عن تكامل «روحه» بواسطة التعليم والتعلّم خاصّة عن طريق القلم . حين نزلت هذه الآيات لم تكن بيئة الحجاز وحدها بل كان العالم المتحضر في ذلك العصر أيضاً لا يعير أهمية تذكر للقلم . أمّا اليوم فإنّنا نعلم أنّ القلم محور كل الحضارات والعلوم ....