ثم عقب - سبحانه - على ما اشتملت عليه قصة نوح من حكم وآداب بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } .
أى : إن فى ذلك الذى ذكرناه لك - أيها الرسول الكريم - عن نوح وقومه { لآيَاتٍ } بينات ، ودلالات واضحات ، على أن هذا القرآن من عندنا لا من عند غيرنا ، وعلى أن العاقبة للمؤمنين ، وسوء المنقلب للكافرين .
و " إن " فى قوله { وَإِن كُنَّا } هى المخففة من الثقيلة ، واللام فى قوله { لَمُبْتَلِينَ } هى الفارقة بينها وبين إن النافية ، والجملة حالية ، والابتلاء : الاختبار والامتحان . . .
أى : إن فى ذلك الذى ذكرناه عن نوح وقومه لآيات واضحات على وحدانيتنا وقدرتنا ، والحال والشأن أن من سنتنا أن نبتلى الناس بالنعم وبالنقم ، وبالخير والشر . ليتبين من يعتبر ويتعظ ، وليتميز الخبيث من الطيب ، وليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حى عن بينة ، وإن الله لسميع عليم .
ثم يعقب على القصة كلها ، وما تتضمنه خطواتها من دلائل القدرة والحكمة :
( إن في ذلك لآيات ، وإن كنا لمبتلين ) . .
والابتلاء ألوان . ابتلاء للصبر . وابتلاء للشكر . وابتلاء للأجر . وابتلاء للتوجيه . وابتلاء للتأديب . وابتلاء للتمحيص . وابتلاء للتقويم . . وفي قصة نوح ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين . .
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي : إن في هذا الصنيع - وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين -
{ لآيَاتٍ } أي : لحججًا{[20540]} ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى ، وأنه تعالى فاعل لما يشاء ، وقادر على كل شيء ، عليم بكل شيء وقوله : { وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي : لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين . .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ يقول تعالى ذكره : إن فيما فعلنا بقوم نوح يا محمد من إهلاكناهم إذ كذبوا رسلنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الاَلهة والأصنام ، لعبرا لقومك من مشركي قريش ، وعظاتٍ وحُجَجا لنا ، يستدلون بها على سنتنا في أمثالهم ، فينزجروا عن كفرهم ويرتدعوا عن تكذيبك ، حذرا أن يصيبهم مثل الذي أصابهم من العذاب . وقوله : وَإنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ يقول تعالى ذكره : وكنا مختبريهم بتذكيرنا إياهم بآياتنا ، لننظر ما هم عاملون قبل نزول عقوبتنا بهم .
وقوله { إن في ذلك لآيات } ، خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أي أَن فيما جرى على هذه الأمم لعبراً ودلائل لمن له نظر وعقل ، ثم أخبر أَنه تعالى يبتلي عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار ، و { إن } عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة واللام لام تأكيد ، والفراء يقول { إن } نافية واللام بمعنى إلا و { لمبتلين } معناه لمصيبين ببلاء ومختبرين اختباراً يؤدي إلى ذلك .
لما ذكر هذه القصة العظيمة أعقبها بالتنبيه إلى موضع العبرة منها للمسلمين فأتى بهذا الاستئناف لذلك .
والإشارة إلى ما ذكر من قصة نوح مع قومه وما فيها . والآيات : الدلالات ، أي لآيات كثيرة منها ما هي دلائل على صدق رسالة نوح وهي إجابة دعوته وتصديق رسالته وإهلاك مكذبيه ، ومنها آيات لأمثال قوم نوح من الأمم المكذبين لرسلهم ، ومنها آيات على عظيم قدرة الله تعالى في إحداث الطوفان وإنزال من في السفينة منزلاً مباركاً ، ومنها آيات على علم الله تعالى وحكمته إذ قدّر لتطهير الأرض من الشرك مثلَ هذا الاستيصال العام لأهله . وإذ قدَر لإبقاء الأنواع مثلَ هذا الصنع الذي أنجى به من كل نوع زوجين ليعاد التناسل .
وعُطف على جملة { إن في ذلك لآيات } جملة { وإن كنا لمبتلين } لأن مضمون { وإن كنا لمبتلين } يفيد معنى : إن في ذلك لَبَلْوى ، فكأنه قيل : إن في ذلك لآيات وابتلاء وكنا مبتلين ، أي وشأننا ابتلاء أوليائنا . فإن الابتلاء من آثار الحكمة الإلهيَّة لترتاض به نفوس أوليائه وتظهر مغالبتها للدواعي الشيطانيَّة فتحمد عواقب البلوى ، ولتتخبَّط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرها زماناً .
والمعنى : أن ما تقدم قبلَ الطوفان من بعد بعثة نوح من تكذيب قومه وأذاهم إياه والمؤمنين معه إنما كان ابتلاء من الله لحكمته تعالى ليميّز الله للنَّاس الخبيثَ من الطيب ولو شاء الله لآمن بنوح قومُه ثم لو شاء الله لنصره عليهم من أول يوم وهذه سنَّة إلهيَّة . وفي هذا المعنى ما جاء في حديث أبي سفيان أن هرقل قال له « وكذلك الأنبياء تُبْتَلَى ثم تكون لهم العاقبة » ، وفي القرآن { والعاقبة للمتقين } [ القصص : 83 ] .
والابتلاء تقدم في قوله تعالى : { وإذِ ابْتَلَى إبراهيمَ ربُّه } [ البقرة : 124 ] وقوله : { وفي ذلكُم بلاءٌ من ربكم عظيم } في سورة البقرة ( 49 ) .
وفي قوله : { وإن كنا لمبتلين } تسلية للنبيء محمد صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من المشركين ، وتعريض بتهديد المشركين بأن ما يواجِهون به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بَقَاءَ له وإنما هو بلوى تزول عنه وتحل بهم ولكلَ حظٌّ يناسبه .
ولكون هذا مما قد يغيب عن الألباب نُزّل منزلة الشيء المتردد فيه فأكد ب { إنْ } المخفَّفة وبفعل { كنا } .
واللام هي الفارقة بين ( إنْ ) المؤكدة المخففة عند إهمال عملها وبين ( إنْ ) النافية .