وقوله - سبحانه - { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى } تكذير بنعم الله - تعالى - بعد التحذير من نقمة . أى : فبأى نعمة من نعم الله - تعالى - تتشكك أيها الإنسان .
والآلاء : جمع إلًى ، وأى : فبأى نعمة من نعم الله - تعالى - تتشكك بهذه النعم .
وسمى - سبحانه - ما مر فى آيات السور نعما ، مع أن فيها النعم والنقم ، لأن فى النقم عظات للمتعظين ، وعبرا للمعتبرين ، فهى نعم بهذا الاعتبار .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكَ تَتَمَارَىَ * هََذَا نَذِيرٌ مّنَ النّذُرِ الاُوْلَىَ * أَزِفَتِ الاَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ كَاشِفَةٌ } .
يقول : فَبأيّ آلاءِ رَبّكَ تَتَمارَى يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعمات ربك يا ابن آدم التي أنعمها عليك ترتاب وتشكّ وتجادل ، والاَلاء : جمع إلى . وفي واحدها لغات ثلاثة : إليٌ على مثال عِليٌ ، وألْيّ على مثال عَلْيٌ ، وأَلى على مثال علا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَبأيّ آلاءِ رَبّكَ تَتَمارَى يقول : فبأيّ نِعَم الله تتمارى يا ابن آدم .
وحدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَبأَيّ آلاءِ رَبّكَ تَتَمارَى قال : بأيّ نِعم ربك تتمارَى .
وقوله : { فبأي ألاء ربك تتمارى } مخاطبة للإنسان الكافر ، كأنه قيل له : هذا هو الله الذي له هذه الأفاعيل ، وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم ، ففي أيها تشك . و : { تتمارى } معناه : تتشكك . وقرأ يعقوب «ربك تتمارى » بتاء واحدة مشددة . وقال أبو مالك الغفاري{[10739]} إن قوله : { ألا تزر } [ النجم : 38 ] إلى قوله : { تتمارى } هو في صحف إبراهيم وموسى .
تفريعُ فذلكةٍ لما ذُكر من أول السورة : مما يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كقوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } إلى قوله : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 2 18 ] . ومما يشمله ويشمل غيره من قوله : { وأنه هو أضحك وأبكى } إلى قوله : { هو رب الشعرى } [ النجم : 43 49 ] فإن ذلك خليط من نِعَممٍ وضدها على نوع الإنسان وفي مجموعها نعمة تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بمنافع الاعتبار بصنع الله . ثم من قوله : { وأنه أهلك عاداً } [ النجم : 50 ] إلى هنا . فتلك نقم من الضالين والظالمين لنصر رسل الله ، وذلك نعمة على جميع الرسل ونعمة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي بشارته بأن الله سينصره ، فجميع ما عدد من النعم على أقوام والنقم عن آخرين هو نعم محضة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
و { أي } اسم استفهام يطلب به تمييز متشارك في أمر يعم بما يميز البعض عن البقية من حال يختص به مستعمل هنا في التسوية كناية عن تساوي ما عُدد من الأمور في أنها نعم على الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ليس لواحد من هذه المعدودات نقص عن نظائره في النعمة كقول فاطمة بنت الخرشُب [ وقَد سُئلت : أيّ بنيكِ أفضل ] « ثَكِلتهُم إن كنتُ أدرى أيهم أفضل » ، أي إن كنت أدري جواب هذا السؤال ، وكقول الأعشى :
بأشجعَ أخَّاذ على الدهر حكمه *** فمن أي ما تأتي الحوادث أفرق
والمقصود من هذا الاستفهام تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النعم .
فالمعنى أنك لا تحصل لك مِرْيَة في واحدة من آلاء ربك فإنها سواء في الإِنعام ، والخطاب بقوله : { ربك } الأظهر أنه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو المناسب لذكر الآلاء والموافق لإِضافة { رب } إلى ضمير المفرد المخاطب في عُرف القرآن .
وجوزوا أن يكون الخطاب في قوله : { فبأي آلاء ربك } لغير معين من الناس ، أي المكذبين أي باعتبار أنه لا يخلو شيء مما عدد سابقاً عن نعمة لبعض الناس أو باعتبار عدم تخصيص الآلاء بما سبق ذكره بل المراد جنس الآلاء كما في قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 16 ] .
والآلاء : النعم ، وهو جمع مفردُه : إلىً ، بكسر الهمزة وبفتحها مع فتح اللام مقصوراً ، ويقال : إِلىً ، وأَلْي ، بسكون اللام فيهما وآخره ياء متحركة ، ويقال : ألْو ، بهمز مفتوحة بعدها لام ساكنة وآخره واو متحركة مثل : دلو .
والتماري : التشكك وهو تفاعل من المرية فإن كان الخطاب بقوله : { ربك } للنبيء صلى الله عليه وسلم كان { تتمارى } مُطاوع مَارَاه مثل التدَافع مطاوع دَفع في قول المنخِّل :
فدفعتُها فتدافَعَتْ *** مَشْيَ القَطاة إلى الغَدِير
والمعنى : فبأي آلاء ربك يشككونك ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى : { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] ، أي لا يستطيعون أن يشككوك في حصول آلاء ربك التي هي نعم النبوءة والتي منها رؤيتُه جبريل عند سدرة المنتهى . فالكلام مسوق لتأييس المشركين من الطمع في الكف عنهم .
وإن كان الخطاب لغير معين كان { تتمارى } تفاعلاً مستعملاً في المبالغة في حصول الفعل ، ولا يعرف فعل مجرد للمراء ، وإنما يقال : امْترى ، إذا شك .