ثم مدح - سبحانه - هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يبلغون دعوته دون أن يخشوا أحدا سواه فقال : { الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله } للذين يكلفهم - سبحانه - بتبليغها لهم . والموصول فى محل جر صفة للذين خلوا . أو منصوب على المدح .
{ وَيَخْشَوْنَهُ } أى : ويخافونه وحده { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } - عز وجل - فى كل ما يأتون وما يذرون ، وما يقولون وما يفعلون .
{ وكفى بالله حَسِيباً } أى : وكفى بالله - تعالى - محاسبا لعباده على نبات قلوبهم وأفعالهم جوارحهم ، وأقوال ألسنتهم .
يمدح تعالى{[23538]} : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ } أي : إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها { وَيَخْشَوْنَهُ } أي : يخافونه ولا يخافون أحدًا سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله ، { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى بالله ناصرًا ومعينًا . وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب ، إلى جميع أنواع بني آدم ، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع ، فإنه قد كان النبي يبعث{[23539]} إلى قومه خاصة ، وأما هو ، صلوات الله عليه ، فإنه بُعث إلى جميع الخلق عَرَبهم وعجمهم ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] ، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده ، فكان أعلى مَنْ قام بها بعده أصحابه ، رضي الله عنهم ، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، في ليله ونهاره ، وحَضَره وسفره ، وسره وعلانيته ، فرضي الله عنهم وأرضاهم . ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا ، فبنورهم يقتدي المهتدون ، وعلى منهجهم يسلك الموفقون . فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم .
قال{[23540]} الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، أخبرنا الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا{[23541]} يقوله ، فيقول الله : ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول : رب ، خشيت الناس . فيقول : فأنا أحق أن يخشى{[23542]} " .
ورواه أيضا عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن زبيد ، عن عمرو بن مرة{[23543]} .
ورواه ابن ماجه ، عن أبي كُرَيْب ، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية ، كلاهما عن الأعمش ، به{[23544]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً } .
يقول تعالى ذكره : سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل ، الذي يبلغون رسالات الله إلى من أُرسلوا إليه ، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلك إياهم ، ولا يخافون أحدا إلا الله ، فإنهم إياه يرهبون إن هم قصروا عن تبليغهم رسالة الله إلى من أُرسلوا إليه . يقول لنبيه محمد : فمن أولئك الرسل الذين هذه صفتهم ، فكن ولا تخش أحدا إلا الله ، فإن الله يمنعك من جميع خلقه ، ولا يمنعك أحد من خلقه منه ، إن أراد بك سوءا . «والذين » من قوله : الّذِينَ يُبَلّغونَ رِسالاَتِ اللّهِ خفض ردّا على «الذين » التي في قوله : سَنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا . وقوله : وكَفَى باللّهِ حَسِيبا يقول تعالى ذكره : وكفاك يا محمد بالله حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا لهم عليها .