فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (39)

{ يخشونه } يخافونه .

{ حسيبا } كافيا للمخاوف ، أو محاسبا على ما صغر أو كبر .

{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا }

الذين مضوا موصوفون بأنهم الذين يبلغون ما أرسلهم به ربهم أو هم الذين يبلغون ، أو أخص الذين يبلغون . . ، ويخافون الله تعالى في كل ما يقولون ويفعلون ، وفي كل ما يأتون ، ويذرون ، في خاصة أنفسهم أو فيما بينهم وبين الخلق ، أو فيما بينهم وبين الله الملك الكبير ، ولا يخافون أحدا سوى الله ، فهم يجهرون بالحق ويدعون إلى الخير ولو كره المبطلون والمشركون والمفسدون ، ويحتملون في سبيل ذلك ولا يتوانون ولا يقصرون ، وبحسبهم تأييد القوي القهار ، الغالب على كل أمر ، القائم على كل نفس ، وأورد صاحب روح المعاني بحثا تنازل فيه التقية وحكمها ومذهب أهل السنة فيها ، ومذهب الشيعة والخوارج والزيدية ، ثم أورد حكم الهجرة ، إذا خيف من عدو ، ثم قسم الخوف والخشية قال : واستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السلام مطلقا ، وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة ، وجعلوا ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه القصة المشار إليها بقوله تعالى : { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف ، لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس : تزوج زوجة ابنه- كما قال ابن فورك –من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة ، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن ، وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ ولهم في التقية كلام طويل ، ولأغراضهم ظل ظليل ، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وأن أهل السنة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط ، وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط ، أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا- على ما حكي عنهم- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلا ، وللخوارج تشديديات عجيبة في هذا الباب ، وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه رضي الله عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفا من أن يهرب ، ومذهب أهل السنة أن التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة وقسموا العدو إلى قسمين : الأول- من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالمسلم والكافر ، ويلحق به من كانت عداوته لاختلاف المذهب اختلافا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر كأهل السنة والشيعة . والثاني- من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة ، وعلى هذا تكون التقية أيضا قسمين : أما الأول فالتقية ممن كانت عداوته مبينة على اختلاف الدين حقيقة أو حكما ، وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر فيه ما هو عليه لتعرض المخالفين ، وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه على الإظهار ، ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الاستضعاف فأرض الله تعالى واسعة ، نعم ، إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل ، تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ، ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج ، وإن لم يكن التخويف كذلك فالتخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل غير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدا ، وأما الثاني فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه ، فقال بعضهم : تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض ، وقال جمع : لا تجب ، إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ، ولا يعود بتركها نقصان في الدين : إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء ، من حيث هو مؤمن . . . بقي لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل : إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام . . . بأنهم لا يخشون أحدا إلا الله وقد أخبر عز وجل عن موسى عليه السلام بأنه قال : ) . . إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى( {[3642]} ، وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله تعالى ، في وجه الجمع ؟ قلت : أجيب بأن الخشية أخص من الخوف ، قال الراغب الخشية : خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، وذكر عدة آيات منها هذه الآية ، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام . . وقيل : إن موسى عليه السلام إنما خاف أن يجعل فرعون عليه بما يحول بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعض فهو خوف الله عز وجل . . اه .


[3642]:سورة طه. من الآية 45.