ثم حكى - سبحانه - مزاعم الجاحدين للبعث والحساب ، ورد عليهم بما يبطلها ، ودعاهم إلى الإيمان بالحق ، وحضهم على العمل الصالح الذى ينفعهم يوم القيامة ، وبشر المؤمنين بما يشرح صدورهم ، وبين أن كل شىء فى هذا الكون يسير بإذنه - تعالى - وإرادته ، فقال - سبحانه - : { زَعَمَ الذين . . . } .
قال صاحب الكشاف : قوله : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ } . الزعم : ادعاء العلم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " زعموا مطية الكذب " وعن شريح : لكل شىء كنية وكنية الكذب زعموا ، ويتعدى المفعولين تعدى العلم ، كما قال الشاعر :
وإن الذى قد عاش يا أم مالك . . . يموت ، ولم أزعمك عن ذاك معزلا
و " أنْ " مع ما فى حيزها قائم مقامهما .
و { بلى } حرف يذكر فى الجواب لإثبات النفى فى كلام سابق ، والمراد هنا : إثبات ما نفوه وهو البعث .
أى : زعم الذين كفروا من أهل مكة وأشباههم من المشركين ، أنهم لن يبعثوا يوم القيامة ، لأن البعث وما يترتب عليه من حساب ، فى زعمهم محال .
قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل الجزم واليقين ، كذبتم فيما تزعمونه من أنه لا بعث ولا حساب . . . . والله لتبعثن يوم القيامة ، ثم لتنبؤن بما عملتموه فى الدنيا من أعمال سيئة ، ولتحاسبن عليها حسابا عسيرا ، يترتب عليه الإلقاء بكم فى النار .
وجىء فى نفى زعمهم بالجملة القسمية ، لتأكيد أمر البعث الذى نفوه بحرف { لَّن } ولبيان أن البعث وما يترتب عليه من ثواب وعقاب ، أمر ثابت ثبوتا قطعيا . وجملة { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } ارتقاء فى الإيطال . و { ثُمَّ } للتراخى النسبى .
أى : قل لهم إنكم لا تبعثون فحسب ، بل ستبعثون ، ثم تجدون بعد ذلك ما هو أشد من البعث ، ألا وهو إخباركم بأعمالكم السيئة ، ثم الإلقاء بكم فى النار بعد ذلك .
فالمراد بالإنباء لازمه ، وهو ما يترتب عليه من حساب وعقاب .
واسم الإشارة فى قوله : { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } يعود إلى البعث وما يترتب عليه من حساب .
أى : وذلك البعث والحساب ، يسير وهين على الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء ، ولا يحول دون تنفيذ قدرته حائل .
فهذا التذييل المقصود به إزالة ما توهموه وعموه من أن البعث أمر محال ، كما قالوا : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }
والمقطع الثالث بقية للمقطع الثاني يحكي تكذيب الذين كفروا بالبعث - وظاهر أن الذين كفروا هم المشركون الذين كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يواجههم بالدعوة - وفيه توجيه للرسول أن يؤكد لهم أمر البعث توكيدا وثيقا . وتصوير لمشهد القيامة ومصير المكذبين والمصدقين فيه ؛ ودعوة لهم إلى الإيمان والطاعة ورد كل شيء لله فيما يقع لهم في الحياة :
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا . قل بلى وربي لتبعثن ، ثم لتنبئون بما عملتم . وذلك على الله يسير . فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا . والله بما تعملون خبير . يوم يجمعكم ليوم الجمع ، ذلك يوم التغابن ، ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ، ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . ذلك الفوز العظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير . ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ، ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، والله بكل شيء عليم ، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين . الله لا إله إلا هو ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . .
ومنذ البدء يسمي مقالة الذين كفروا عن عدم البعث زعما ، فيقضي بكذبه من أول لفظ في حكايته . ثم يوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى توكيد أمر البعث بأوثق توكيد ، وهو أن يحلف بربه . وليس بعد قسم الرسول بربه توكيد : ( قل : بلى وربي لتبعثن ) . . ( ثم لتنبئون بما عملتم ) . . فليس شيء منه بمتروك . والله أعلم منهم بعملهم حتى لينبئهم به يوم القيامة ! ( وذلك على الله يسير ) . . فهو يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم السر والعلن وهو عليم بذات الصدور . وهو على كل شيء قدير . كما جاء في مطلع السورة تمهيدا لهذا التقرير .
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين والكفار والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } أي : لتُخْبَرُنَّ بجميع أعمالكم ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، { وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : بعثكم ومجازاتكم .
وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه ، عز وجل ، على وقوع المعاد ووجوده فالأولى في سورة يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ يونس : 53 ] والثانية في سورة سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } الآية [ سبأ : 3 ]
والثالثة هي هذه [ { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ] {[28919]}
القول في تأويل قوله تعالى : { زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن لّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : زعم الذين كفروا بالله أن لن يبعثهم الله إليه من قبورهم بعد مماتهم . وكان ابن عمر يقول : زعم كنية الكذب .
حدثني بذلك محمد بن نافع البصريّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن بعض أصحابه عن ابن عمر .
وقوله : قُلْ بَلى ورَبّي لَتُبْعَثُنّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : بلى وربي لتبعثن من قبوركم ثُمّ لَتُنَبّونّ بِمَا عَمِلْتُمْ يقول : ثم لتخبرنّ بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا ، وذَلكَ على اللّهِ يَسِيرٌ يقول : وبعثكم من قبوركم بعد مماتكم على الله سهل هين .
وقوله تعالى : { زعم الذين كفروا } يريد قريشاً ثم هي بعد تعم كل كافر بالبعث ، وقال عبد الله بن عمر : الزعم : كنية الكذب ، وقال عليه السلام : ( بئس مطية الرجل زعموا ){[11138]} ، ولا توجد «زعم » مستعملة في فصيح من الكلام إلا عبارة عن الكذب ، أو قول انفرد به قائله فيريد ناقله أن يبقي عهدته على الزاعم ، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم ، وقول سيبويه : زعم الخليل إنما يجيء فيما انفرد الخليل به ، ثم أمره تعالى أن يجيب نفيهم بما يقتضي الرد عليه إيجاب البعث وأن يؤكد ذلك بالقسم ، ثم توعدهم تعالى في آخر الآية بأنهم يخبرون بأعمالهم على جهة التوقيف والتوبيخ ، المؤدي إلى العقاب .