ثم وجه - سبحانه - نداء ثالثاً إلى الناس ، نبههم فيه إلى فقرهم إليه - سبحانه - ، وإلى غناه عنهم ، وإلى مسئولية كل إنسان عن نفسه ، وإلى وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى أرسله إليهم ، وإلى الفرق الشاسع بين الإِيمان والكفر ، وإلى سوء مصير المكذبين ، فقال - تعالى - : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء . . . فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } .
وقوله - تعالى - : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله . . . } نداء منه - سبحانه - للناس ، يعرفهم فيه حقيقة أمرهم ، ولأنهم لا غنى لهم عن خالقهم - عز وجل - .
أى : يأيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله - تعالى - فى كل شئونكم الدنيوية والأخروية { والله } - تعالى - وحده هو الغنى ، عن كل مخلوق سواه ، وهو { الحميد } أى : المحمود من جميع الموجودات ، لأنه هو الخالق لكل شئ ، وهو المنعم عليكم وعلى غيركم بالنعم التى لا تحصى .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم عرف الفقراء ؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنه لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفترقين إليه من الناس وغيرهم ، لأن الفقر مما يتبع الضعف ، ولكما كان الفقير أضعف كان أفقر ، وقد شهد الله - سبحانه - على الإِنسان بالضعف فى قوله : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء .
وجمع - سبحانه - فى وصف ذاته بين الغنى والحميد ، للإِشعار بأنه - تعالى - بجانب غناه عن خلقه ، هو الذى يفيض عليهم من نعمه ، وهو الذى يعطيهم من خيره وفضله ، ما يجعلهم يحمدونه بألسنتهم وقلوبهم .
قال الآلوسى : قوله { الحميد } أى : المنعم على جميع الموجودات ، المستحق بإنعامه للحمد ، وأصله المحمود ، وأريد به ذلك عن طريق الكناية ، ليناسب ذكره بعد فقرهم ، إذ الغنى لا ينفع الفقير إلا إذا كان جواداً منعماً ، ومثله مستحق للحمد ، وهذا كالتكميل لما قبله . .
( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد ، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ، وما ذلك على الله بعزيز ) . .
إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات الى نور الله وهداه . في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله . وأن الله غني عنهم كل الغنى . وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم ، وهو المحمود بذاته . وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض ، فإن ذلك عليه يسير . .
الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله - جل وعلا - يعنى بهم ، ويرسل إليهم الرسل ؛ ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة الى الهدى ، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور . ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملكه تعالى ! والله هو الغني الحميد .
وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته ، ويفيض عليهم من رحمته ، ويغمرهم بسابغ فضله - بإرسال رسله إليهم ، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء . . إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً وكرماً ومناً . لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته . لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم ، أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم . ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال ، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل .
وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه ، حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر ، الضعيف العاجز ، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل !
والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض . والأرض تابع صغير من توابع الشمس . والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم . والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة - على ضخامتها الهائلة - متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده . وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله !
ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية . . ينشئه ، ويستخلفه في الأرض ، ويهبه كل أدوات الخلافة - سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته - ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره . فيرسل الله إليه الرسل ، رسولاً بعد رسول ، وينزل على الرسل الكتب والخوارق . ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصاً يحدث بها الناس ، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم ، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ، ومن عجز وضعف ، بل إنه - سبحانه - ليحدث عن فلان وفلان بالذات ، فيقول لهذا : أنت فعلت وأنت تركت ، ويقول لذاك : هاك حلاً لمشكلتك ، وهاك خلاصاً من ضيقتك !
كل ذلك ، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض ، التابعة الصغيرة من توابع الشمس ، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! والله - سبحانه - هو فاطر السماوات والأرض ، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة . بمجرد توجه الإرادة . وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة . .
والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته ، وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران .
فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ، الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة . والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر ، لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ، ولأنه هو الحق وبالحق نزل . فلا يتحدث إلا بالحق ، ولا يقنع الا بالحق ، ولا يعرض إلا بالحق ، ولا يشير بغير الحق . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس أنتم أولو الحاجة والفقر إلى ربكم ، فإياه فاعبدوا ، وفي رضاه فسارعوا ، يغنكم من فقركم ، وتُنْجح لديه حوائجكم وَاللّهُ هُوَ الغَنِيّ عن عبادتكم إياه ، وعن خدمتكم ، وعن غير ذلك من الأشياء ، منكم ومن غيركم ، الحَمِيدُ يعني : المحمود على نِعَمه ، فإن كلّ نعمة بكم وبغيركم فمنه ، فله الحمد والشكر بكلّ حال .
لما أشبع المقام أدلّةً ، ومواعظَ ، وتذكيراتٍ ، مما فيه مقنع لمن نصب نفسه منصب الانتفاع والاقتناع ، ولم يظهر مع ذلك كله من أحوال القوم ما يتوسم منه نزعهم عن ضلالهم وربما أحدث ذلك في نفوس أهل العزّة منهم إعجاباً بأنفسهم واغتراراً بأنهم مرغوب في انضمامهم إلى جماعة المسلمين فيزيدهم ذلك الغرورُ قبولاً لتسويل مكائد الشيطان لهم أن يعتصموا بشركهم ، ناسب أن ينبئهم الله بأنه غني عنهم وأن دينه لا يعْتزّ بأمثالهم وأنه مُصيِّرهم إلى الفناء وآت بناس يعتز بهم الإِسلام .
فالمراد ب { يا أيها الناس } هم المشركون كما هو غالب اصطلاح القرآن ، وهم المخاطبون بقوله آنفاً { ذلكم الله ربكم له الملك } [ فاطر : 13 ] الآيات .
وقبل أن يوجه إليهم الإِعلام بأن الله غنيّ عنهم وجه إليهم إعلام بأنهم الفقراء إلى الله لأن ذلك أدخل للذلة على عظمتهم من الشعور بأن الله غنيّ عنهم فإنهم يوقنون بأنهم فقراء إلى الله ولكنهم لا يُوقنون بالمقصد الذي يفضي إليه علمهم بذلك ، فأريد إبلاغ ذلك إليهم لا على وجه الاستدلال ولكن على وجه قرع أسماعهم بما لم تكن تقرع به من قبل عسى أن يستفيقوا من غفلتهم ويتكعكعوا عن غرور أنفسهم ، على أنهم لا يخلو جمعهم من أصحاب عقول صالحة للوصول إلى حقائق الحق فأولئك إذا قرعت أسماعَهم بما لم يكونوا يسمعونه من قبل ازدادوا يقيناً بمشاهدة ما كان محجوباً عن بصائرهم بأستار الاشتغال بفتنة ضلالهم عسى أن يؤمن من هيّأه الله بفطرته للإِيمان ، فمن بقي على كفره كان بقاؤه مشوباً بحيرة ومرَّ طعْمُ الحياة عنده ، فأيْنَ ما كانت تتلقاه مسامعهم من قبل تمجيدهم وتمجيد آبائهم وتمجيد آلهتهم ، ألا ترى أنهم لما عاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مراجعتهم عَدُّوا عليه شتم آبائهم ، فحصل بهذه الآية فائدتان .
وجملة { أنتم الفقراء } تفيد القصر لتعريف جزأيْها ، أي قصر صفة الفقر على الناس المخاطبين قصراً إضافياً بالنسبة إلى الله ، أي أنتم المفتقرون إليه وليس هو بمفتقر إليكم وهذا في معنى قوله تعالى : { إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم } [ الزمر : 7 ] المشعر بأنهم يحسبون أنهم يغيظون النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قبول دعوته . فالوجه حمل القصر المستفاد من جملة { أنتم الفقراء } على القصر الإِضافي ، وهو قصر قلب ، وأما حمل القصر الحقيقي ثم تكلف أنه ادعائي فلا داعي إليه .
وإتباع صفة { الغني } ب { الحميد } تكميل ، فهو احتراس لدفع توهمهم أنه لما كان غنياً عن استجابتهم وعبادتهم فهم معذورون في أن لا يعبدوه ، فنبه على أنه موصوف بالحمد لمن عبده واستجاب لدعوته كما أتبع الآية الآخرى { إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم } [ الزمر : 7 ] بقوله : { وإن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ] . ومن المحسنات وقوع { الحميد } في مقابلة قوله : { إلى الله } كما وقع { الغني } في مقابلة قوله : { الفقراء } لأنه لما قيد فقرهم بالكون إلى الله قيدّ غنى الله تعالى بوصف { الحميد } لإفادة أن غناه تعالى مقترن بجوده فهو يحمد من يتوجه إليه .