ثم بين - سبحانه - مستندهم الحقيقى فقال : { بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } .
أى : أنهم ليس لهم فى الحقيقة مستند لا من العقل ولا من النقل ، وإنما مستندهم الوحيد تقليدهم لآبائهم فى جهالاتهم وسفاهاتهم وكفرهم . فقد قالوا عندما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الدين الحق : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، أى على دين وطريقة تؤم وتقصد ، وهى عبادة هذه الآلهة { وَإِنَّا على آثَارِهِم } وطريقتهم { مُّهْتَدُونَ } أى : سائرون بدون تفكر أو تدبر ، أو حجة أو دليل ، فهم أشبه ما يكونون بقطيع الأنعام الذى يسير خلق قائده دون أن يعرف إلى أى طريق يسير . .
وعند هذا الحد يكشف عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة المتهافتة التي لا تقوم على رؤية ، ومزاولة هذه العبادة الباطلة التي لا تستند إلى كتاب :
( بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مهتدون ) . .
وهي قولة تدعو إلى السخرية ، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة . إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد ، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل . وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو منساق ؛ ولا يسأل : إلى أين نمضي ? ولا يعرف معالم الطريق !
والإسلام رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري لا تقر هذا التقليد المزري ، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازاً بالإثم والهوى . فلا بد من سند ، ولا بد من حجة ، ولا بد من تدبر وتفكير ، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما آتينا هؤلاء القائلين : لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء الأوثان بالأمر بعبادتها ، كتابا من عندنا ، ولكنهم قالوا : وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها ، فنحن نعبدها كما كانوا يعبدونها وعنى جلّ ثناؤه بقوله : بَلْ وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ بل وجدنا آباءنا على دين وملة ، وذلك هو عبادتهم الأوثان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : على أُمّةٍ : مِلّة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ يقول : وجدنا آباءنا على دين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال : قد قال ذلك مشركو قريش : إنا وجدنا آباءنا على دين .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ قالُوا إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ قال : على دين .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : على أُمّةٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار على أُمّةٍ بضم الألف بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة . وذُكر عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآه «على إمّةٍ » بكسر الألف . وقد اختُلف في معناها إذا كُسرت ألفها ، فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كُسرت على أنها الطريقة وأنها مصدر من قول القائل : أممت القوم فأنا أؤمهم إمّة . وذُكر عن العرب سماعا : ما أحسن عمته وإمته وجلسته إذا كان مصدرا . ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك ، كما قال عديّ ابن زيد :
ثُمّ بَعْدَ الفَلاحِ وَالمُلْكِ والإمّ *** ة وَارَتّهُمْ هُناكَ القُبورُ
وقال : أراد إمامة الملك ونعيمه . وقال بعضهم : ( الأُمّة بالضم ، والإمّة بالكسر بمعنى واحد ) .
والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره : الضمّ في الألف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه . وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلاّ معنى الطريقة والمنهاج ، على ما ذكرناه قبلُ ، لا النعمة والملك ، لأنه لا وجه لأن يقال : إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك ، لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة ، لأن الاتباع في الملك ليس بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده .
وقوله : وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول : وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون ، يعني : لهم متبعون على منهاجهم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول : وإنا على دينهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يقول : وإنا متبعوهم على ذلك .
هذا إضراب إبطال عن الكلام السابق من قوله تعالى : { فهم به مستمسكون } [ الزخرف : 21 ] فهو إبطال للمنفي لا للنفي ، أي ليس لهم علم فيما قالوه ولا نقل . فكان هذا الكلام مسوقاً مساق الذمّ لهم إذ لم يقارنوا بين ما جاءهم به الرّسول وبين ما تلقوه من آبائهم فإن شأن العاقل أن يميّز ما يُلقَى إليه من الاختلاف ويعرضه على معيار الحق .
والأمة هنا بمعنى الملة والدّين ، كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء ( 92 ) { إنَّ هذه أمتكم أمةً واحدةً } وقول النابغة :
و{ على } استعارة تبعية للملابسة والتمكن .
وقوله : { على آثارهم } خبرُ ( إنَّ ) . و { مهتدون } خبر ثان . ويجوز أن يكون { على آثارهم } متعلقاً ب { مهتدون } بتضمين { مهتدون } معنى سائرون ، أي أنهم لا حجة لهم في عبادتهم الأصنام إلا تقليد آبائهم ، وذلك ما يقولونه عند المحاجّة إذ لا حجة لهم غير ذلك . وجعلوا اتّباعهم إياهم اهتداء لشدة غرورهم بأحوال آبائهم بحيث لا يتأملون في مصادفة أحوالهم للحق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}.
قال الشافعي: الأمة على ثلاثة وجوه: قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} قال: على دين.
وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} قال: بعد زمان.
وقوله: {اِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلهِ} قال: معلما. (أحكام الشافعي: 1/42. ون مناقب الشافعي: 1/298.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما آتينا هؤلاء القائلين: لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء الأوثان بالأمر بعبادتها، كتابا من عندنا، ولكنهم قالوا: وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها، فنحن نعبدها كما كانوا يعبدونها وعنى جلّ ثناؤه بقوله:"بَلْ قالوا إنا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ": بل وجدنا آباءنا على دين وملة، وذلك هو عبادتهم الأوثان... واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "على أُمّةٍ"؛ فقرأته عامة قرّاء الأمصار "على أُمّةٍ "بضم الألف، بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة. وذُكر عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآه «على إمّةٍ» بكسر الألف. وقد اختُلف في معناها إذا كُسرت ألفها؛ فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كُسرت على أنها الطريقة، وأنها مصدر من قول القائل: أممت القوم فأنا أؤمهم إمّة... ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك... وقال بعضهم: الأُمّة بالضم، والإمّة بالكسر بمعنى واحد.
والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره: الضمّ في الألف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلاّ معنى الطريقة والمنهاج، على ما ذكرناه قبلُ، لا النعمة والملك، لأنه لا وجه لأن يقال: إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك، لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة، لأن الاتباع في الملك ليس بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده.
وقوله: "وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ" يقول: وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون، يعني: لهم متبعون على منهاجهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنهم قوم يُنكرون الرسل ويكذّبونهم بعلة أنهم بشر، ثم اقتدوا بآبائهم، واتبعوهم، وهم بشر أيضا، فهذا تناقض في القول.
فيه الدلالة على إبطال التقليد لذمّه إياهم على تقليد آبائهم، وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} على دين. وقرئ «على إمة» بالكسر، وكلتاهما من الأمّ وهو القصد، فالأمة: الطريقة التي تؤم، أي: تقصد... والأمة: الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد. وقيل: على نعمة وحالة حسنة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية على هذا استمرار في احتجاجهم، لأنهم يقولون: وجدنا آباءنا في نعمة من الله وهم يعبدون الأصنام، فذلك دليل رضاه عنهم، وكذلك اهتدينا نحن بذلك {على آثارهم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الجواب قطعاً عن هذين الاستفهامين: ليس لهم ذلك على مطلق ما قالوا ولا مقيده من صريح عقل ولا صحيح نقل إلى من يصح النقل عنه من أهل العلم بالأخبار الإلهية، نسق عليه قوله إرشاداً إليه: {بل قالوا} أي في جوابهم عن قول ذلك واعتقاده مؤكدين إظهاراً جهلاً أو تجاهلاً؛ لأن ذلك لم يعب عليهم إلا لظن أنه لا سلف لهم أصلا فيه، فإذا ثبت أنه عمن تقدمهم انفصل النزاع: {إنا وجدنا آباءنا} أي وهم أرجح منا عقولاً وأصح أفهاماً.
{على أمة} أي طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم...
ولما علم ذلك من حالهم، ولم يكن صريحاً في الدلالة على الهداية، بينوا الجار والمجرور، وأخبروا بعد الإخبار واستنتجوا منه قولهم استئنافاً لجواب من سأل:
{مهتدون} أي نحن، فإذا ثبت بهذا الكلام المؤكد أنا ما أتينا بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع واقتفاء الآثار، فلا اعتراض علينا بوجه، هذا قوله في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك، ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أي مخالفة، ما هذا إلا لمحض الهوى وقصور النظر، وجعل محطه الأمر الدنيوي الحاضر، لا نفوذ لهم في المعاني بوجه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قولة تدعو إلى السخرية، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة. إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل. وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو منساق؛ ولا يسأل: إلى أين نمضي؟ ولا يعرف معالم الطريق! والإسلام رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري لا تقر هذا التقليد المزري، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازاً بالإثم والهوى. فلا بد من سند، ولا بد من حجة، ولا بد من تدبر وتفكير، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا إضراب إبطال عن الكلام السابق من قوله تعالى: {فهم به مستمسكون} فهو إبطال للمنفي لا للنفي، أي ليس لهم علم فيما قالوه ولا نقل. فكان هذا الكلام مسوقاً مساق الذمّ لهم؛ إذ لم يقارنوا بين ما جاءهم به الرّسول وبين ما تلقوه من آبائهم؛ فإن شأن العاقل أن يميّز ما يُلقَى إليه من الاختلاف ويعرضه على معيار الحق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا هو المنهج الذي يمنع التغيير والتطور والتصحيح لأخطاء الماضي، عندما يتحوّل التاريخ إلى حالةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ أو عمليةٍ مقدّسةٍ لا تسمح بأيّ نقاشٍ حول المضمون الفكري أو الروحي أو العملي الذي تلتزمه.. وقد أكّده المترفون الذين يقفون أمام عملية التغيير الاجتماعي أو الفكري أو السياسي التي قد تلغي امتيازاتهم نتيجة ما تحدثه الأفكار الجديدة من إعادة نظر في كثيرٍ من المفاهيم المألوفة أو المتوارثة بعد عرضها على ميزان الفكر والواقع، المراد تطويره أو تغييره، لينطلق الجيل الجديد بعقليةٍ جديدةٍ ونهج جديد. وعلى ضوء ذلك كان الجمود هو الطابع الذي يعمل المترفون الطغاة على إحكام سيطرته على الفكر الإِنساني، بإعطاء فكر الآباء والتاريخ قداسة، تسلط سيفاً على مطلب الحرية الفكرية في كل القضايا التي يمكن أن يدور فيها الخلاف، في ساحات الحوار...