ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور فقال : { كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة . وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة } .
و " كلا " حرف زجر وردع ، والمراد به هنا إبطال ما توهمه هذا المغرور من حسبانه أن ماله سيخلده . والنبذ : الطرح للشيء والإِلقاء به مع التحقير والتصغير من شأنه .
والحُطَمة من الحَطْم ، وهو كسر الشيء بشدة وقوة ، ويقال : رجل حطمة ، إذا كان شديداً فى تحطيمه وكسره لغيره ، والمراد بالحطمة هنا : النارر الشديدة الاشتعال : التي لا تبقي على شيء إلا وأحرقته .
أي : كلا ليس الأمر كما زعم هذا الهمزة واللمزة ، من أن ماله سيخلده ، بل الحق أنه والله ليطرحن بسبب أفعاله القبيحة فى النار التى تحطم كل شيء يلقى فيها ، والتي لا يعرف مقدار شدتها واشتعالها إلا الله - تعالى - .
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ! ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب !
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ؛ لا يعجز عن فعل شيء ! حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء !
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده ؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة !
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلا بالخلود ! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة " المنبوذ " المهمل المتردي في( الحطمة )التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي( نار الله الموقدة )وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة .
وهي( تطلع )على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد ! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام ! وفي جرس الألفاظ تشديد : عدده . كلا . لينبذن . تطلع . ممددة وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : ( لينبذن في الحطمة . وما أدراك ما الحطمة ? نار الله الموقدة . . )فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الإجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . . وفي التعبير تهديد ( ويل . لينبذن . الحطمة . . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة ) . .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة( الهمزة اللمزة ) !
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . . .
وقوله : { كَلاّ } يقول تعالى ذكره : ما ذلك كما ظنّ ، ليس مالُه مخلدَه ، ثم أخبر جلّ ثناؤه أنه هالك ومعذّب على أفعاله ومعاصيه ، التي كان يأتيها في الدنيا ، فقال جلّ ثناؤه : { لَيُنْبَذَنّ فِي الْحُطَمَةِ } : يقول : ليُقذفنّ يوم القيامة في الحُطَمة ، والحطمة : اسم من أسماء النار ، كما قيل لها : جهنم وسَقَر ولَظَى ، وأحسبها سميت بذلك لحَطْمِها كلّ ما ألقي فيها ، كما يقال للرجل الأكول : الحُطَمَة .
وذُكر عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك : «لَيُنْبَذَانّ فِي الْحُطَمَةِ » يعني : هذا الهمزة اللمزة وماله ، فثنّاه لذلك .
ثم رد على هذه الحسبة وأخبر إخباراً مؤكداً أنه ينبذ { في الحطمة } أي التي تحطيم ما فيها وتلتهبه ، وقرأ : «يحسَب » بفتح السين الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وقرأ ابن محيصن والحسن بخلاف عنه : «لينبذان » بنون مكسورة مشددة قبلها ألف ، يعني هو ماله ، وروي عنه ضم الذال على نبذ جماعة هو ماله وعدده ، أو يريد جماعة الهمزات .
و { كلاّ } إبطال لأن يكون المال مُخلدّاً لهم . وزجر عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلتهم في حال من يحسب أن المال يخلد صاحبه ، أو إبطال للحرص في جمع المال جمعاً يمنع به حقوق الله في المال من نفقات وزكاة .
استئناف بياني ناشىء عن ما تضمنته جملة : { يحسب أن ماله أخلده } من التهكم والإِنكار ، وما أفاده حرف الزجر من معنى التوعد .
والمعنى : ليَهْلِكَنَّ فَليُنْبَذَنَّ في الحُطمة .
واللام جواب قسم محذوف . والضمير عائد إلى الهمزة .
والنبذ : الإِلقاء والطرح ، وأكثر استعماله في إلقاء ما يكره . قال صاحب « الكشاف » في قوله تعالى : { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } [ القصص : 40 ] شبههم استحقاراً لهم بحَصَيات أخذَهُن آخذٌ بكفه فطرحهن اه .
والحُطمة : صفة بوزن فُعَلَة ، مثل ما تقدم في الهُمزة ، أي لينبذن في شيء يحطمه ، أي يكسره ويدقه .
والظاهر أن اللام لتعريف العهد لأنه اعتبر الوصف علماً بالغلبة على شيء يحطم وأريد بذلك جهنم ، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن . وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار .