قوله تعالى : { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } . يعني ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به ، وحينئذ يكون ذلك في محل الرفع ، وقال بعضهم : محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم بأن الله أي لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه ، وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذي يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق ، وهو قوله تعالى ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم ) .
قوله تعالى : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } . فآمنوا ببعض وكفروا ببعض .
ثم بين - سبحانه - أن سبب استحقاقهم للعذاب الأليم ، هو ارتكابهم لما نهى الله عنه عن قصد وسوء نية فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق } .
أي : ذلك العذاب الأليم حل بهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته التبشير ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكتموا هم هذا الحق وامتدت إليه أيديهم الأثيمة بالتحريف والتأويل إيثاراً لمطامع دنيوية على هدى الله الذي هو أساس كل سعادة .
فاسم الإِشارة { ذَلِكَ } يعود على مجموع ما سبق بيانه من أكل النار ، وعدم تكليم الله إياهم ، وعدم تزكيتهم . . إلخ .
والباء في قوله : { بِأَنَّ } للسبيبة ، والمراد بالكتاب : التوراة .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الكاتمين للحق بقوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .
اختلفوا : خلف بعضهم بعضاً ، وأصله من أختلاف الطريق ، تقول اختلفوا في الطريق .
أي : جاء بعضهم من جهة والبعض الآخر من جهة أو جهات أخرى ، ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب والاعتقاد .
والكتاب : التوارة ، أو التوراة والإِنجيل ، إذ يصح أن يراد جنس الكتاب والمقام يقتضي صرفه إلى هذين الكتابين ، وقد أبعد في التأويل من قال بأن المراد به القرآن لأن الحديث عن أهل الكتاب الذين كتموا ما في كتبهم من بشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم واختلافهم في الكتاب من مظاهره : إيمانهم ببعضه وكفرهم بالبعض الآخر ، وتحريفه عن مواضعه وتأويله على غير ما يراد منه .
والشقاق : الخلاف ، كأن كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر ، وإذا وصف الخلاف بالبعد فهم منه أنه بعيد عن الحق ، يقال : قال فلان قولا بعيداً ، أي بعيداً من الصواب .
والمعنى : ذلك العذاب الأليم حل بأولئك الأشقياء بسبب كتمانهم لما أنزله الله في كتبه فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها - لفي بعد شديد عن الحق والصواب :
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت ألوانا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمراً نهى الله عن كتمانه ، لكي يقلع كل من يتأنى له الخطاب عن هذه الرذيلة وفاء للعهد الذي أخذه الله على الناس بصفة عامة ، وعلى أولى العلم بصفة خاصة .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ نَزّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
أما قوله : ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بالحَقّ فإنه اختلف في المعنيّ ب«ذلك » ، فقال بعضهم : معنِيّ «ذلك » فعلهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار في مخالفتهم أمر الله وكتمانهم الناس ما أنزل الله في كتابه وأمرهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه ، من أجل أن الله تبارك تعالى نزل الكتاب بالحق ، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبره عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ، فهم مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون لا يكون منهم غير اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة .
وقال آخرون : معناه ذلك معلوم لهم بأن الله نزل الكتاب بالحق لأنا قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك لهم والكتاب حق . كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم : ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره : فما أصبرهم عليه ، معلوم أنه لهم ، لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين ، وتنزيله حق ، فالخبر عن ذلك عندهم مضمر .
وقال آخرون : معنى ذلك أن الله وصف أهل النار فقال : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ ثم قال : هذا العذاب بكفرهم ، و«هذا » ههنا عندهم هي التي يجوز مكانها «ذلك » كأنه قال : فعلنا ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق فكفروا به ، قال : فيكون «ذلك » إذا كان ذلك معناه نصبا ويكون رفعا بالباء .
وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي : أن الله تعالى ذكره أشار بقوله ذلك إلى جميع ما حواه قوله : إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ إلى قوله : ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بالحَقّ من خبره عن أفعال أحبار اليهود وذكره ما أعدّ لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك ، فقال : هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبار من اليهود بكتمانهم الناس ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته مع علمهم به طلبا منهم لعرض من الدنيا خسيس ، وبخلافهم أمري وطاعتي ، وذلك من تركي تطهيرهم وتزكيتهم وتكليمهم ، وإعدادي لهم العذاب الأليم بأني أنزلت كتابي بالحق فكفروا به واختلفوا فيه . فيكون في «ذلك » حينئذٍ وجهان من الإعراب : رفع ونصب ، والرفع بالباء ، والنصب بمعنى : فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق فكفروا به واختلفوا فيه وترك ذكر : «فكفروا به واختلفوا » اجتزاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه .
وأما قوله : وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيد يعني بذلك اليهود والنصارى ، اختلفوا في كتاب الله فكفرت اليهود بما قصّ الله فيه من قصص عيسى ابن مريم وأمه ، وصدقت النصارى ببعض ذلك وكفروا ببعضه ، وكفروا جميعا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم . فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب ، كما قال الله تعالى ذكره : فإنْ آمَنُوا بِمِثْل ما آمَنْتُمْ بِه فَقَد اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلّوْا فانّمَا هُمْ فِي شِقاق . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا في الكِتابِ لَفي شِقاقِ بَعِيد يقول : هم اليهود والنصارى . يقول : هم في عداوة بعيدة . وقد بينت معنى الشقاق فيما مضى .
{ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان . { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } اللام فيه إما للجنس ، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض . أو للعهد ، والإشارة إما إلى التوراة ، واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه ، أي حرفوا ما فيها . وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر ، وتقول ، وكلام علمه بشر ، وأساطير الأولين . { لفي شقاق بعيد } لفي خلاف بعيد عن الحق .
جيء باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما كقول النابغة :
* أتاني أبيتَ اللعن أنَّكَ لُمْتَنِي *
والكلامُ السابق الأظهرُ أَنه قولُه : { فما أصبرهم على النار } [ البقرة : 175 ] والمعنى أنهم استحقوا العذاب على كتمانهم بسبب أن الله أنزل الكتاب بالحق فكتمانُهم شيئاً من الكتاب كتمان للحق وذلك فساد وتغيير لمراد الله ؛ لأن ما يُكتم من الحق يَخلفه الباطل كما بيناه آنفاً فحقَّ عليهم العذاب لكتمانه ، لأنه مخالف مراد الله من تنزيله ، وعليه فالكتاب في قوله : { بأن الله نزل الكتاب } هو عين الكتاب المذكور في قوله : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } [ البقرة : 174 ] وهو كتابهم التوراة والإنجيل ليكون الموضوع في العلة والحكم المعلَّل واحداً ، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة .
ويجوز أن يكون المشار إليه السابق هو الكتمان المأخوذ من { يكتمون } [ البقرة : 174 ] ، أي إنما كتَموا ما كتموا بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فعلموا أنه على النعت الذي بَشر الله به على لسان التوراة . والمعنى أنهم كتموا دلائل صدق النبي حَسداً وعناداً ؛ لأن الله أنزل القرآن على محمد ، فالكتاب هنا غير الكتاب في قوله : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } [ البقرة : 174 ] .
والجملة على هذا الوجه استئناف بياني لاستغراب تعمدهم كتمانَ ما أنزل الله من الكتاب وإن هذا الصنع الشنيع لا يكون إلاّ عن سبب عظيم ، فبُين بقوله تعالى : { ذك بأن الله نزل الكتاب بالحق } .
وقوله : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدَهم ، والمرادُ بالذين اختلفوا عين المراد من قوله : { الذين يكتمون } [ البقرة : 174 ] ، و { الذين اشتروا } [ البقرة : 175 ] ، فالموصولات كلها على نسق واحد .
والمراد من الكتاب المجرور بفي يحتمل أنه المرادُ من الكتاب في قوله : { نزل الكتاب } فهو القرآن فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ليناسب استقلال جملة التذييل بذاتها ويكون المراد باختلفوا على هذا الوجه أنهم اختلفوا مع الذين آمنوا منهم أو اختلفوا فيما يصفون به القرآن من تكذيب به كلِّه أو تكذيبِ ما لا يوافق هواهم وتصديقِ ما يؤيد كتبهم ، ويحتمل أن المراد من الكتاب المجرور بفي هو المراد من المنصوب في قوله : { ما أنزل الله من الكتاب } [ البقرة : 174 ] يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يُقِرُّونه والذي يغيرونه وفي الإيمان بالإنجيل والإيمان بالتوراة ، ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن إذْ قالوا : سحرٌ أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين . لكنه خروج عن سياق الكلام على أهل الكتاب ، ومن المحتمل أيضاً أن يكون المراد بالكتاب الجنس أي الذين اختلفوا في كتب الله فآمنوا ببعضها وكفروا بالقرآن .
وفائدة الإظهار في مقام الإضمار في قوله : { الكتاب } أن يكون التذييل مستقلاً بنفسه لجريانه مجرى المثل ، وللمفسرين وجوه كثيرة في قوله : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } متفاوتة البعد .
ووصف الشقاق بالبعيد مجاز عقلي أي بعيد صاحبُه عن الوفاق كقوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين } [ هود : 118 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك}: العذاب الذي نزل بهم في الآخرة.
{بأن الله نزل الكتاب}: يعني القرآن.
{بالحق}: لم ينزل باطلا لغير شيء، فلم يؤمنوا به.
{وإن الذين اختلفوا في الكتاب}: في القرآن.
{لفي شقاق بعيد}: يعني لفي ضلال بعيد، يعني طويل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بالحَقّ": اختلف في المعنيّ ب«ذلك»، فقال بعضهم: معنى «ذلك» فعلهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار في مخالفتهم أمر الله وكتمانهم الناس ما أنزل الله في كتابه وأمرهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه، من أجل أن الله تبارك تعالى نزل الكتاب بالحق، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبره عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيم"، فهم مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون لا يكون منهم غير اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
وقال آخرون: معناه: ذلك معلوم لهم بأن الله نزل الكتاب بالحق لأنا قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك لهم والكتاب حق. كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره: فما أصبرهم عليه، معلوم أنه لهم، لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين، وتنزيله حق، فالخبر عن ذلك عندهم مضمر.
وقال آخرون: معنى ذلك أن الله وصف أهل النار فقال: "فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ"، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم، و«هذا» ههنا عندهم هي التي يجوز مكانها «ذلك» كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق فكفروا به، قال: فيكون «ذلك» إذا كان ذلك معناه نصبا ويكون رفعا بالباء.
وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله "ذلك "إلى جميع ما حواه قوله: "إنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ "إلى قوله: "ذَلِكَ بأنّ اللّهَ نَزّلَ الكِتابَ بالحَقّ" من خبره عن أفعال أحبار اليهود وذكره ما أعدّ لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك، فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبار من اليهود بكتمانهم الناس ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته مع علمهم به طلبا منهم لعرض من الدنيا خسيس، وبخلافهم أمري وطاعتي، وذلك من تركي تطهيرهم وتزكيتهم وتكليمهم، وإعدادي لهم العذاب الأليم بأني أنزلت كتابي بالحق فكفروا به واختلفوا فيه.
"وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيد" يعني بذلك اليهود والنصارى، اختلفوا في كتاب الله فكفرت اليهود بما قصّ الله فيه من قصص عيسى ابن مريم وأمه، وصدقت النصارى ببعض ذلك وكفروا ببعضه، وكفروا جميعا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب، كما قال الله تعالى ذكره: "فإنْ آمَنُوا بِمِثْل ما آمَنْتُمْ بِه فَقَد اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلّوْا فإنّمَا هُمْ فِي شِقاق".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن الذين اختلفوا في الكتاب} أي خالفوا، وإلا قد اختلف أهل الإيمان والكفر، ولكن أرادوا، والله أعلم، بالاختلاف الخلاف أي خالفوا الكتاب، ولم يعملوا به، {لفي شقاق بعيد}؛ قيل: لفي خلاف بعيد، وقيل: لفي ضلال طويل، وقيل: لفي عداوة. قيل: حرف البعيد في الوعيد إياس؛ كأنه قال: لا انقطاع له...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى الكتاب هاهنا قيل: إنه التوراة. وقال الجبائي: إنه القرآن، وغيره. وهو أعم فائدة. وقال بعضهم: إن المراد بالأول التوراة، وبالثاني القرآن.
ومعنى الاختلاف هاهنا يحتمل أمرين:
أحدهما -قول الكفار في القرآن؛ منهم من قال: هو كلام السحرة، ومنهم من قال: كلام يعلمه، ومنهم من قال: كلام تقوّله.
الثاني- اختلاف اليهود والنصارى في التأويل، والتنزيل من التوراة، والإنجيل، لأنهم حرفوا الكتاب، وكتموا صفة محمد النبي (صلى الله عليه وآله) وجحدت اليهود الإنجيل والقرآن...
أحدهما -بعيد عن الألفة بالاجتماع على الصواب.
الثاني- بعيد: من الشقاق، لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال، وكلاهما قد عدل عن السداد...
والاختلاف: الذهاب على جهة التفريق في الجهات، وأصله من اختلاف الطريق، تقول: اختلفنا الطريق، فجاء هذا من هاهنا، وجاء ذاك من هناك. ثم قيل في الاختلاف في المذاهب تشبيها في الاختلاف في الطريق من حيث أن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد. فأما الاختلاف في الأجناس، فهو ما لا يسد واحد منهما مسد الآخر، فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد والبياض، وغيرهما.
والشقاق: انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له. وهو طلب كل واحد منهما ما يشق على الآخر، لأجل العداوة. والمشاقة مثله...
قوله تعالى: {وإن الذين اختلفوا} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن الذين اختلفوا قيل: هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله، فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم...
وإن قلنا: المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوها
أحدها: أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح، فاليهود قالوا: إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته
وثانيها: أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فذكر كل واحد منهم له تأويلا آخر فاسدا لأن الشيء إذا لم يكن حقا واجب القبول بل كان متكلفا كان كل أحد يذكر شيئا آخر على خلاف قول صاحبه، فكان هذا هو الاختلاف
وثالثها: ما ذكره أبو مسلم فقال: قوله: {اختلفوا} من باب افتعل الذي يكون مكان فعل، كما يقال: كسب واكتسب... وكتب واكتتب، وفعل وافتعل، ويكون معنى قوله: {الذين اختلفوا في الكتاب} الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله: {فخلف من بعدهم خلف} وقوله: {إن في اختلاف الليل والنهار} أي كل واحد يأتي خلف الآخر، وقوله: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر} أي كل واحد منهما يخلف الآخر...
أما قوله: {لفي شقاق بعيد} ففيه وجوه
أحدها: أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة
وثانيها: كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد
وثالثها: أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه، وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحا فيك البتة، والله أعلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا حكم آخر في الكتاب غير حكم كتمانه، فهو يفهمنا أن الاختلاف فيه بعد عن الحق ككتمانه، لأن الحق واحد وهو ما يدعو إليه الكتاب، والمختلفون لا يدعون إلى شيء واحد ولا يسلكون سبيلا واحدة { [وأن] هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام: 153) وهذا دليل على أنه لا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يقيموا على خلاف في الدين، ولا أن يكونوا شيعا كل يذهب إلى مذهب {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (الأنعام: 15) ولما كان اختلاف الفهم ضروريا لأنه من طباع البشر وجب عليهم أن يتحاكموا فيه إلى الكتاب والسنة حتى يزول ولا يجوز أن يقيموا عليه {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (النساء: 59) فلا عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم بعد هذا البيان الذي جعل لكل مشكل مخرجا...
[و] الشقاق أثر طبيعي للاختلاف، والاختلاف في الأمة أثر طبيعي للتقليد والانتصار للرؤساء الذي اتخذوا أندادا ولو بدون رضاهم ولا إذنهم إذ لولا التقليد لسهل على الأمة أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد بعرضه على كتاب الله وسنة رسوله...
ويتوهم بعضهم أن ترك أقوال بعض الأئمة إهانة لهم، وهذا غير صحيح بل هو عين التعظيم لهم، والإتباع لسيرتهم الحسنة. ولو فرضنا أنه إهانة وكان يتوقف عليها اتباع هدي كتاب الله وسنة رسوله أفلا تكون واجبة ويكون تعظيم الكتاب والسنة مقدما عليه لأن إهانتهما كفر وترك للدين؟ على أن ترك أقوال الأئمة واقع ما له من دافع، فإن أتباع كل إمام تاركون لأقوال غيره المخالفة لمذهبهم، بل ما من مذهب إلا وقد رجح بعض علمائه أقوالا مخالفة لنص الإمام ولاسيما الحنيفة.
هذا وإن الكتاب لا مثار فيه للخلاف والنزاع إذا صحت النية، فكل من يتعلم العربية تعلما صحيحا وينظر في سنة النبي وسيرته وما جرى عليه السلف من أصحابه والتابعين لهم يسهل عليه أن يفهمه، وما تختلف فيه الأفهام لا يقتضي الشقاق بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم والفهم أن ينظروا في الفهمين المختلفين وطرق الترجيح بينهما، وما عساه ينفرد به بعض الأفراد من فهم خاص بمعارفه يكون حجة عليه دون غيره، فهولا يقتضي شقاقا لأن الشقاق فيه معنى المشاركة. والله أعلم وأحكم.
وأزيد هذا إيضاحا بما حققته في هذه المسألة بعد الطبعة الأولى لهذا الجزء وهو أن ما كان قطعي الدلالة من النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملا وقضاء، وأن ما كان ظني الدلالة فهو موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبدات والمحرمات، وإلى أولي الأمر في الأحكام القضائية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{ذلك بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ومن الحق، مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته...
وأيضا ففي قوله: {نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه، وتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده، فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.. شقاق مع الحق، وشقاق مع ناموس الفطرة، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولقد كانوا كذلك، وما يزالون. وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها. فلا تأخذ به جملة، وتمزقه تفاريق.. وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام. ونحن نرى مصداقه واقعا في هذا العالم الذي نعيش فيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جيء باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما...
وعليه فالكتاب في قوله: {بأن الله نزل الكتاب} هو عين الكتاب المذكور في قوله: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} [البقرة: 174] وهو كتابهم التوراة والإنجيل ليكون الموضوع في العلة والحكم المعلَّل واحداً، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة...
والمرادُ بالذين اختلفوا عين المراد من قوله: {الذين يكتمون} [البقرة: 174]، و {الذين اشتروا} [البقرة: 175]، فالموصولات كلها على نسق واحد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وما كان ذلك الوجوب إعلاما بإعلان الحق في الكتاب الكريم والعقاب على الكتمان إلا لأن الكتاب أنزل بالحق، والذين يختلفون فيه اختاروا المشاقة على الإيمان، ولذلك قال تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} أي أن الله تعالى نزل القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك أن من يكتمه ولا يبينه للناس ليستضيئوا بنوره، وليهتدوا بهديه يرتكب إثما عظيما، يستحق عليه عقابا أليما، وهو الطريق المستقيم، ولا ينبغي لأحد أن يخالفه أو يختلف في شأنه وصدقه، ولذا قال عز من قائل: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}، فمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ويترك ما يدعو إليه، أو يجعله عضين مفرقا يفهمه غير مستقيم في فهمه بل يفهمه متناقضا على حسب هواه، لا على مقتضى نسقه الحكيم، من يفعل ذلك فشأنه في شقاق بحيث يتخذ كل واحد شقة من القول، ويكون كل شق بعيدا عن الآخر، لا يتلاقون أبدا فهم في خلاف وكل حزب بما لديهم فرحون.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وآخر آية في هذا الربع تؤكد بشكل قاطع وصورة جازمة ما نزل به كتاب الله من الحق والصدق، وما نطق به القول الفصل بالنسبة لبقية الملل والأديان المنقسمة على نفسها والمختلفة فيما بينها، وبذلك كان القرآن الكريم هو المعيار الوحيد لما ينسب إلى الكتب المنزلة، والحكم العدل في شؤونها المجملة والمفصلة
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}، {وتَمَّت كَلِمَاتُ رَبَّكَ صِدقاً وَعَدلاً}...
(وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد). إنها هوّة واسعة يسقطون فيها، فالشقاق في القيم المنهجية السماوية هو هوة كبيرة، فلو كان الخلاف في أمور مادية لأمكن للبشر أن يتحملوها فيما بينهم، ولكانت مسألة سهلة. ولكن الخلاف في أمر قيمي لا يقدر البشر على أن يصلحوه فيما بينهم، من هنا فإن شقة الخلاف واسعة، ولا يقوى على حلها إلا الله، ولذلك قال سبحانه: {إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} (من الآية 3 سورة الزمر)...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين...