البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ} (176)

{ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } ، ذلك : إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، قاله الزجاج ؛ أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار ، قاله الحسن ، أو العذاب ، قاله الزمخشري ؛ أو الاشتراء ، قاله ابن عطية ، تقريعاً على بعض التفاسير في الكتاب من قوله : { نزل الكتاب } ، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به ، أو الكتمان .

وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم ، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون .

واختلف في إعراب ذلك فقيل : هو منصوب بفعل محذوف تقديره : فعلنا ذلك ، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف .

وقيل : مرفوع ، واختلفوا ، أهو فاعل ، والتقدير : وجب ذلك لهم ؟ أم خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : الأمر ذلك ؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق .

فاختلفوا ، أم مبتدأ ، والخبر قوله : { بأن الله نزل } ؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق ، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور ، وهو العذاب ، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق ، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه ، وأقام السبب مقام المسبب .

والتفسير المعنوي : ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق ، أو الكتاب الذي نزله بالحق .

وقال الأخفش : الخبر محذوف تقديره : ذلك معلوم بأن الله ، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر ، والكتاب التوراة والإنجيل ، أو القرآن ، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه ، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله : { صم بكم عمي } ، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء ، أقوال أربعة .

بالحق ، قال ابن عباس : بالعدل .

وقال مقاتل : ضد الباطل .

وقال مكي : بالواجب ، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب .

{ وإن الذين اختلفوا في الكتاب } ، قيل : هم اليهود ، والكتاب : التوراة ، واختلافهم : كتمانهم بعث عيسى ، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم .

آمنوا ببعض ، وهو ما أظهروه ، وكفروا ببعض ، وهو ما كتموه .

وقيل : هم اليهود والنصارى ، قاله السدي ؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما السلام ، وبإنكار الإنجيل ، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا .

وقيل : كفار العرب ، والكتاب : القرآن .

قال بعضهم : هو سحر ، وبعضهم : هو أساطير الأولين ، وبعضهم : هو مفترى إلى غير ذلك .

وقيل : أهل الكتاب والمشركون .

قال أهل الكتاب : إنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس هو من كلام الله .

وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقالوا : دارست ، وقالوا : إن هذا إلا اختلاق ، إلى غير ذلك .

وقال المشركون : بعضهم قال : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : كهانة ، وبعضهم : أساطير ، وبعضهم : افتراء إلى غير ذلك .

والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر ، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين ، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع .

وفي المنتخب : الأقرب ، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما ، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه ، وعرفوا تأويله .

فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به ، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم ، دون القرآن .

انتهى كلامه .

{ لفي شقاق بعيد } : تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق ، أو من كون هذا يشق على صاحبه .

وكنى بالشقاق عن العداوة ، ووصف الشقاق بالبعد ، إما لكونه بعيداً عن الحق ، أو لكونه بعيداً عن الألفة .

أو كنى به عن الطول ، أي في معاداة طويلة لا تنقطع .

وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق ، وأن غيره افتراء ، وقد كذبوا في ذلك .

كتب الله يشبه بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً .

/خ176