قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ } : اختلفُوا في مَحَلِّ : " ذَلِكَ " من الإعراب فقيل : رفعٌ ، وقيل : نَصْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال :
أحدها : أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف ، أي : وجب لَهُمْ ذلك .
الثاني : أن " ذَلِكَ " مبتدأٌ ، و " بِأَنَّ اللَّهَ " خبره ، أي : ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ .
والثالث : أنَّهُ خَبَرٌ ، والمبتدأ محذوفٌ ، أَي : الأمرُ ذلك ، والإشارة إلى العَذَابِ ، ومَنْ قال بأنَّه نصب ، قدَّره : " فعلنا ذلك " [ والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف ، ومَعْنَاها السببية .
فصل في اختلافهم في الإشارة ب " ذلك "
اختلفوا في الإشارة بقوله " ذلك " ]{[11]} إلى ماذا ؟ على قولين :
الأوَّل : أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان ، أي : إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه ، ويوقِعُون التُّهمة فيه ، فلا جَرَم ، استحقُّوا ذلك الوعيد الشديد ، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ :
أقربُها : أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة .
ثانيها : اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى .
ثالثها : أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً .
رابعها : أَنَّ الله لا يزكِّيهم .
خامسها : أَنَّ الله لا يكلِّمهم .
فقوله : " ذَلِكَ " يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [ كلِّ واحدٍ منها ، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع .
والقول الثاني : أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى ]{[12]} ما يفعلونه من جراءتهم على الله تعالى في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله ، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَ من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون ، ولا يَنْقَادُونَ ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ ؛ كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ } [ البقرة :6 - 7 ] وقوله : " بالحَقِّ " ، أَي : بالصِّدق ، وقيل : ببيان الحقِّ ، والمرادُ من " الكتاب " : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة ، والإنجيل ، ويحتملُ أن يكُون القرآن ، فإن كَانَ الأَوَّلَ ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله ، وتحريفه ، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني ، كان المعنى : وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ .
إِنْ قلنا المراد ب " الكَتِابِ " هو القُرْآن ، كان اختلافُهُم فيه : أَنَّ بعضَهُم قال : هو كَهَانَةٌ ، وقال آخرون هو سِحْرٌ ، وآخرونَ قالُوا : هو رجْزٌ ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال : إِنَّه كلامٌ مختلق . وإنْ قلنا : المراد ب " الكتَابِ " هو التوراةُ والإِنْجيلُ ، فالمراد باختلافهم يحتمل وجُوهاً{[13]} .
أحدها : اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح{[14]} ، فاليهود قالوا : إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى ؛ والنصارَى قالوا : إِنَّها دالَّة على نبوَّته .
وثانيها : اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً .
وثالثها : قال أبو مُسْلِم : قوله : " اخْتَلَفُوا " من باب " افْتَعَلَ " الذي كون مكان " فَعَلَ " ، كما يقال كَسَبَ واكْتِّسَبَ ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ ، ويكون معنى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ } أي : توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه ؛ كقوله تبارك وتعالى
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ الأعراف : 169 ] وقوله { إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ يونس : 6 ] أي : كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر ، [ وقوله { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر ]{[15]} ، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ .
أحدها : أن يكونَ المراد ب " الكِتَابِ " جنْسَ ما أنزل الله ، والمراد ب { الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ } الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب ، فقلبوا بعضَ كُتُب الله ، وهي التوراة والإنجيلُ ؛ لأجل عداوتك ، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ ، ومنازعة شديدةٍ ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة{[16]} ؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ .
وثانيها : كأنه تعالى يقُولُ : هؤلاءِ ، وإن اختلفُوا فيما بينهم ، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك ، وغاية المشاقَّة لك ، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ .
وثالثها : أَنَّ هؤلاء الَّذين اتَّفَقوا على أصلِ التَّحريف ، فإن كلَّ واحد منْهُم يُكَذِّب صاحبه ، ويشاقُّه ، وينازعه ، وإذا كان كذلك ، فقد عرفت كذبَهُمْ ، بقولهم ، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.