أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات ، من سائر دواب الأرض ، صغيرها وكبيرها ، بحريها ، وبريها ، وأنه { يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض ، وأين تأوي إليه من وكرها ، وهو مستودعها .
وقال علي بن أبي طلحة وغيره ، عن ابن عباس : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي : حيث تأوي ، { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث تموت .
وعن مجاهد : { مُسْتَقَرَّهَا } في الرحم ، { وَمُسْتَوْدَعَهَا } في الصلب ، كالتي في الأنعام : وكذا روي عن ابن عباس والضحاك ، وجماعة . وذكر{[14491]} -ابن أبي حاتم أقوال المفسرين هاهنا ، كما ذكره عند تلك الآية :{[14492]} فالله أعلم ، وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله{[14493]} : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
{ وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها وما تدبّ دابة في الأرض . والدابة : الفاعلة من دبّ فهو يدبّ ، وهو دابّ ، وهي دابة . إلا على اللّهِ رِزْقُها يقول : إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها هو به متكفل ، وذلك قُوُتها وغذاؤها وما به عيشها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : مجاهد ، في قوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها قال : ما جاءها من رزق فمن الله ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا ، ولكن ما كان من رزق فمن الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها قال : كلّ دابة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها يعني : كلّ دابة والناس منهم .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل ماش فهو دابة ، وأن معنى الكلام : وما دابة في الأرض ، وأنّ «من » زائدة .
وقوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها حيث تستقرّ فيه ، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلاً أو نهارا . وَمُسْتَوْدَعَها : الموضع الذي يُودِعها ، إما بموتها فيه أو دفنها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس ، قال : مُسْتَقَرّها ، حيث تأوي ، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها يقول ، حيث تأوى ، وَمُسْتَوْدَعَها يقول ، إذا ماتت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعُها قال ، المستقرّ : حيث تأوي ، والمستودع ، حيث تموت .
وقال آخرون : مُسَتَقَرّها في الرحم ، وَمُسْتَوْدَعَها : في الصلب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها : في الرحم ، وَمُسْتَوْدَعَها : في الصلب ، مثل التي في الأنعام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها فالمستقرّ : ما كان في الرحم ، والمستودع : ما كان في الصلب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها يقول : في الرحم ، وَمُسْتَوْدَعَها في الصلب .
وقال آخرون : المستقرّ : في الرحم ، والمستودع : حيث تموت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ويعلى بن فضيل ، عن إسماعيل ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها قال : مستقرّها : الأرحام ، ومستودعها : الأرض التي تموت فيها .
قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن مرّة ، عن عبد الله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها المستقرّ : الرحم ، والمستودع . المكان الذي تموت فيه .
وقال آخرون مُسْتَقَرّها : أيام حياتها وَمُسْتَوْدَعَها : حيث تموت فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها قال : مستقرّها : أيام حياتها ، ومستودعها : حيث تموت ومن حيث تبعث .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدوابّ من رزق فمنه ، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرّها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام .
ويعني بقوله : كُلّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ عدد كل دابة ، ومبلغ أرزاقها وقدر قرارها في مستقرّها ، ومدة لبثها في مستودعها ، كلّ ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب مبين ، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها . وهذا إخبار من الله جلّ ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه أنه قد علم الأشياء كلها ، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها يقول لهم تعالى ذكره : فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم ، فكيف يخفي عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثَنَوْا به صدورهم واستغشوا عليه ثيابهم ؟
وقوله تعالى : { وما من دابة*** . . } الآية ، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله { يعلم ما يسرون وما يعلنون } . و «الدابة » ما دب من الحيوان ، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب ، وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
نياف كغصن البان ترتج إن مشت*** دبيب قطا البطحاء في كل منهل{[6265]}
. . . . . . . . . *** لطيرهن دبيب{[6266]}
وفي حديث أبي عبيدة : فإذا دابة مثل الظرب{[6267]} يريد من حيوان البحر ، وتخصيصه بقول { في الأرض } إنما هو لأنه الأقرب لحسهم : والطائر والعائم إنما هو في الأرض ، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما .
وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك .
وقوله تعالى : { على الله } إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً . و «المستقر » : صلب الأب : و «المستودع » بطن الأم ، وقيل «المستقر » : المأوى ، و «المستودع » القبر ، وهما على هذا الطرفان ، وقيل «المستقر » ، ما حصل موجوداً من الحيوان ، والمستودع ما يوجد بعد . قال القاضي أبو محمد : و «المستقر » على هذا - مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى . وقوله : { في كتاب } إشارة إلى اللوح المحفوظ . وقال بعض الناس : هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله .