يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته ، وطلبا لما عنده ، وترك الأوطان والأهلين والخِلان ، وفارق بلاده في الله ورسوله ، ونصرة لدين الله { ثُمَّ قُتِلُوا } أي : في الجهاد { أَوْ مَاتُوا } أي : حتف أنفهم{[20383]} ، أي : من غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل ، والثناء الجميل ، كما قال تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء : 100 ] .
وقوله : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } أي : ليُجْريَن عليهم{[20384]} من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } أي : الجنة . كما قال تعالى : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة نعيم ، كما قال هاهنا : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } ، ثم قال : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } أي : بمن يهاجر ويجاهد في سبيله ، وبمن يستحق ذلك ، { حَلِيمٌ } أي : يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه ، وتوكلهم عليه . فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فإنه حي عند ربه يرزق ، كما قال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، والأحاديث في هذا كثيرة ، كما تقدم{[20385]} وأما من تُوُفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه ، وعظيم إحسان الله إليه .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيَّب بن واضح ، حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن شُرَيْح ، عن ابن{[20386]} الحارث - يعني : عبد الكريم - عن ابن عقبة - يعني : أبا عبيدة بن عقبة - قال : حدثنا{[20387]} شُرَحْبِيل بن السِّمْط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمر بي سلمان - يعني : الفارسي - رضي الله عنه ، فقال : إني سمعت رسول الله يقول : " من مات مرابطًا ، أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن{[20388]} من الفَتَّانين " واقرءوا إن شئتم : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا زيد بن بشر ، أخبرني همام ، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان : كنا برودس ، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فمر بجنازتين ، إحداهما قتيل والأخرى متوفى ، فمال الناس على القتيل ، فقال فضالة : ما لي{[20389]} أرى الناس مالوا مع هذا ، وتركوا هذا ؟ ! فقالوا : هذا قتيل في سبيل الله تعالى . فقال : والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت ، اسمعوا كتاب الله : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] {[20390]} }
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا ابن لَهِيعة ، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني ، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه : أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين ، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي ، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى ، فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ ، إن الله يقول : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك ، لَيْرُزَقّنُهُم الله يوم القيامة في جناته رِزْقا حَسَنَا يعني بالحسن : الكريم وإنما يعني بالرزق الحسن : الثواب الجزيل . وَإنّ اللّهَ لَهُوَ خَيرُ الرّازِقِينَ يقول : وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم ، وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله ، فقال بعضهم : سواء المقتول منهم والميت ، وقال آخرون : المقتول أفضل . فأنزل الله هذه الاَية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم استواء أمر الميت في سبيله والمقتول فيها في الثواب عنده . وقد :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين ، أحدهما قتيل والاَخر متوفي فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته ، فقال : أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه على أخيه المتوفي ؟ ( فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله . فقال ) فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أيّ حفرتيهما بُعثت اقرءوا قول الله تعالى : وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ثمّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا . . . إلى قوله : وَإنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ .
{ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا } في الجهاد . { أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } الجنة ونعيمها ، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل . روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت . { وإن الله لهو خير الرازقين } فإنه يرزق بغير حساب .
وقوله { والذين هاجروا في سبيل الله } الآية ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفة فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم { رزقاً حسناً } وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل ، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل ، وقال بعض الناس : المقتول والميت في سبيل الله شهيدان ، ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله ، و «الرزق الحسن » ، يحتمل أن يريد به رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة .