اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوٓاْ أَوۡ مَاتُواْ لَيَرۡزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (58)

قوله : «والَّذِينَ هَاجَرُوا » مبتدأ ، وقوله : «لَيَرْزُقَنَّهُم »{[31685]} جواب قسم مقدر ، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله : «والَّذِينَ هَاجَرُوا » . وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ . ومن يمنع يضمر قولاً هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية . وهو قول مرجوح {[31686]} .

قوله : «رِزْقاً » يجوز أن تكون مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرعي والذبح أي : مرزوقاً{[31687]} حسناً . وأن يكون مصدراً مؤكداً {[31688]} .

وقوله : «ثُمَّ قُتِلُوا » وقوله : «مُدْخَلاً » تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران{[31689]} وفي النساء . {[31690]}

فصل

لما ذكر أن المُلْكَ له يوم القيامة ، وأنه يَحكم بينهم ، ويُدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين ، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال : «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا »{[31691]} فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله ، وطلب رضاه { ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } وهم كذلك قال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم{[31692]} . ثم قال : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة . وقال الأصم : إنه العلم والفهم لقول شعيب - عليه السلام{[31693]} - { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً }{[31694]} [ هود : 88 ] . ( وقال الكلبي : «رِزْقاً حَسَناً » ){[31695]} أي حلالاً وهو الغنيمة .

وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت ، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة{[31696]} . ثم قال : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } معلوم{[31697]} بأن كل الرزق من عنده . فقيل : إن{[31698]} التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره . وقيل : المراد أنه الأصل في الرزق ، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله{[31699]} . وقيل : إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق .

وقيل : إن غيره إذا رزق فإنما{[31700]} يرزق لانتفاعه به ، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء ، أو لأجل الرقّة الجنسية ، أما{[31701]} الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً ، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان . وقيل : إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل ، وتلك الإرادة من الله ، فالرازق في الحقيقة هو الله{[31702]} .

فصل{[31703]}

قالت المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة :

الأول : أن غير الله{[31704]} قادر .

الثاني : أن غير الله يصح أن يرزق ويملك ، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك .

الثالث : أن الرزق لا يكون إلا حلالاً ، لأن قوله : «خَيْرُ الرَّازِقِيْن » يدل على كونهم ممدوحين .

والجواب : لا نزاع في كون العبد قادراً ، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام .

والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه .

فصل

دل قوله : { ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء ، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد ، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان » ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة {[31705]} .


[31685]:في ب: (ليرزقنهم).
[31686]:والذي منع وقوع جملة القسم خبرا ثعلب فلا يجوز عنده ما زيد والله لأضربنه، ولعل المانع عنده إما كون جملة القسم لا ضمير فيها فلا تكون، لأن الجملتين هاهنا ليستا كجملتي الشرط والجزاء، لأن الجملة الثانية ليست معمولة لشيء من الجملة الأولى، ولهذا منع بعضهم وقوعها صلة. وإما كون جملة القسم إنشائية، والجملة الواقعة خبرا لا بد من احتمالها للصدق والكذب ولهذا منع ابن الأنباري أن يقال: زيدا ضربه، وزيد هل جاءك. وهذا التعليل ليس بشيء والراجح وقوع جملة القسم خبرا لأن الجملتين (جملة القسم والجواب) مرتبطتان ارتباطا صارتا به كالجملة الواحدة وإن لم يكن بينهما عمل. ولأن الخبر الذي شرطه احتمال الصدق والكذب الخبر الذي هو قسيم الإنسان لا خبر المبتدأ للاتفاق على أن أصله الإفراد، واحتمال الصدق والكذب إنما هو من صفات الكلام. ولأن السماع قد ورد بما منعه ثعلب كالآية التي معنا وقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} [العنكبوت: 9]. شرح الكافية 1/19، المغني 2/405 – 407، الهمع 1/96.
[31687]:في ب: يرزوقا. وهو تحريف.
[31688]:انظر التبيان 2/946
[31689]:من قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169].
[31690]:عند قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء: 31].
[31691]:انظر الفخر الرازي 23/58.
[31692]:المرجع السابق.
[31693]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31694]:[هود: 88].
[31695]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31696]:انظر الفخر الرازي 23/58 – 59.
[31697]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/58 – 59.
[31698]:إن: سقط من ب.
[31699]:في ب: الله تعالى.
[31700]:في ب: إنما.
[31701]:في ب: وأما.
[31702]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/ 58 – 59.
[31703]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/59.
[31704]:في ب: أن الله غير. وهو تحريف.
[31705]:انظر الفخر الرازي 23/59.