يمدح تعالى{[23538]} : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ } أي : إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها { وَيَخْشَوْنَهُ } أي : يخافونه ولا يخافون أحدًا سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله ، { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى بالله ناصرًا ومعينًا . وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب ، إلى جميع أنواع بني آدم ، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع ، فإنه قد كان النبي يبعث{[23539]} إلى قومه خاصة ، وأما هو ، صلوات الله عليه ، فإنه بُعث إلى جميع الخلق عَرَبهم وعجمهم ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] ، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده ، فكان أعلى مَنْ قام بها بعده أصحابه ، رضي الله عنهم ، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، في ليله ونهاره ، وحَضَره وسفره ، وسره وعلانيته ، فرضي الله عنهم وأرضاهم . ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا ، فبنورهم يقتدي المهتدون ، وعلى منهجهم يسلك الموفقون . فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم .
قال{[23540]} الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، أخبرنا الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا{[23541]} يقوله ، فيقول الله : ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول : رب ، خشيت الناس . فيقول : فأنا أحق أن يخشى{[23542]} " .
ورواه أيضا عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن زبيد ، عن عمرو بن مرة{[23543]} .
ورواه ابن ماجه ، عن أبي كُرَيْب ، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية ، كلاهما عن الأعمش ، به{[23544]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً } .
يقول تعالى ذكره : سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل ، الذي يبلغون رسالات الله إلى من أُرسلوا إليه ، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلك إياهم ، ولا يخافون أحدا إلا الله ، فإنهم إياه يرهبون إن هم قصروا عن تبليغهم رسالة الله إلى من أُرسلوا إليه . يقول لنبيه محمد : فمن أولئك الرسل الذين هذه صفتهم ، فكن ولا تخش أحدا إلا الله ، فإن الله يمنعك من جميع خلقه ، ولا يمنعك أحد من خلقه منه ، إن أراد بك سوءا . «والذين » من قوله : الّذِينَ يُبَلّغونَ رِسالاَتِ اللّهِ خفض ردّا على «الذين » التي في قوله : سَنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا . وقوله : وكَفَى باللّهِ حَسِيبا يقول تعالى ذكره : وكفاك يا محمد بالله حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا لهم عليها .
وفي قوله : { الذين يبلغون } جيء بالموصول دون اسم الإشارة أو الضمير لما في هذه الصلة من إيماء إلى انتفاء الحرج عن الأنبياء في تناول المباح بأن الله أراد منهم تبليغ الرسالة وخشية الله بتجنب ما نهى عنه ولم يكلفهم إشقاق نفوسهم بترك الطيبات التي يريدونها ، ولا حجب وجدانهم عن إدراك الأشياء على ما هي عليه من حُسْن الحَسَن وقُبْح القَبيح ، ولا عن انصراف الرغبة إلى تناول ما حَسُن لديهم إذا كان ذلك في حدود الإِباحة ، ولا كلّفهم مراعاة ميول الناس ومصطلحاتهم وعوائدهم الراجعة إلى الحيدة بالأمور عن مناهجها فإن في تناولهم رغباتهم المباحة عوناً لهم على النشاط في تبليغ رسالات الله ، ولذلك عقب بقوله : { ولا يخشون أحداً إلا الله } ، أي لا يخشون أحداً خشية تقتضي فعل شيء أو تركه .
ثم إن جملة { الذين يبلغون } إلى آخرها يجوز أن تكون في موضع الصفة للذين خلوا من قبل ، أي الأنبياء . وإذ قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم متبع ما أذِن الله له اتباعه من سُنّة الأنبياء قبله عُلم أنه متصف بمضمون جملة { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله } بحكم قياس المساواة ، فعلم أن الخشية التي في قوله : { وتخشى الناس } [ الأحزاب : 37 ] ليست خشية خَوف توجب ترك ما يكرهه الناس أو فعلَ ما يرغبونه بحيث يكون الناس محتسبين على النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها توَقُّع أن يصدر من الناس وهم المنافقون ما يكرهه النبي عليه الصلاة والسلام ويدل لذلك قوله : { وكفى بالله حسيباً } ، أي الله حسيب الأنبياء لا غيره .
هذا هو الوجه في سياق تفسير هذه الآيات ، فلا تسلك في معنى الآية مسلكاً يفضي بك إلى توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حصلت منه خشية الناس وأن الله عرّض به في قوله : { ولا يخشون أحداً إلا الله } تصريحاً بعد أن عرّض به تلميحاً في قوله : { وتخشى الناس } [ الأحزاب : 37 ] بل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكترث بهم وأقدم على تزوج زينب ، فكل ذلك قبل نزول هذه الآيات التي ما نزلت إلا بعد تزوج زينب كما هو صريح قوله : { زوّجناكها } [ الأحزاب : 37 ] ولم يتأخر إلى نزول هذه الآية .
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله : { وكفى بالله حسيباً } حيث تقدم ذكره لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى المثل والحِكمة .
وإذ قد كان هذا وصف الأنبياء فليس في الآية مجال للاستدراك عليها بمسألة التقية في قوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] .