{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }أي : قلبه مصدق ، وعمل عملا صالحا ، { فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ، كقوله : { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } [ الكهف : 30 ] أي : لا يُكْفَر سعيُه ، وهو عمله ، بل يُشْكَر ، فلا يظلم مثقال ذرة ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي : يُكتب جميعُ عمله ، فلا يَضيع عليه منه شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فمن عمل من هؤلاء الذين تفرّقوا في دينهم بما أمره الله به من العمل الصالح ، وأطاعه في أمره ونهيه ، وهو مقرّ بواحدانية الله مصدّق بوعده ووعيده متبرّىء من الأنداد والاَلهة فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ يقول : فإن الله يشكر عمله الذي عمل له مطيعا له ، وهو به مؤمن ، فيثيبه في الاَخرة ثوابه الذي وعد أهل طاعته أن يثيبهموه ، ولا يكفر ذلك له فيجحذه ويحرمه ثوابه على عمله الصالح . وَإنّا لَهُ كاتِبُونَ يقول : ونحن نكتب أعماله الصالحة كلها فلا نترك منها شيئا ، لنجزيه على صغير ذلك وكبيره وقليله وكثيره .
قال أبو جعفر : والكفران مصدر من قول القائل : كفرت فلانا نعمته فأنا أكفُره كُفْرا وكُفْرانا ومنه قوله الشاعر :
مِنَ النّاسِ ناسٌ ما تَنامُ خُدُودهُم *** وخَدّي وَلا كُفْرَانَ للّهِ نائِمُ
ثم فرق بين المحسن والمسيء فذكر المحسن بالوعد أي { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } فهو بنعيمه مجازى وذكر المسيء في قوله ، { حرام } إلى آخر الآية فتأمل الوعيد فيها على كل قول تذكرة فإنه بين ، و «الكفران » مصدر كالكفر ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
رأيت أناساً لا تنام جدودُهم . . . وجدي ولا كفران لله نائم{[1]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} يقول: وهو مصدق بتوحيد الله، عز وجل، {فلا كفران لسعيه} يعني: لعمله يقول: يشكر الله عز وجل عمله. {وإنا له كاتبون} يكتب له سعيه الحفظة من الملائكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فمن عمل من هؤلاء الذين تفرّقوا في دينهم بما أمره الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقرّ بوحدانية الله مصدّق بوعده ووعيده متبرّئ من الأنداد والآلهة، "فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ "يقول: فإن الله يشكر عمله الذي عمل له مطيعا له، وهو به مؤمن، فيثيبه في الآخرة ثوابه الذي وعد أهل طاعته أن يثيبهموه، ولا يكفر ذلك له فيجحده ويحرمه ثوابه على عمله الصالح. "وَإنّا لَهُ كاتِبُونَ": ونحن نكتب أعماله الصالحة كلها فلا نترك منها شيئا، لنجزيه على صغير ذلك وكبيره وقليله وكثيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه دلالة ألا يقبل من الأعمال الصالحات إلا بالإيمان؛ لأنه شرط في قبولها الإيمان بقوله: {وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} أي يشكر سعيه، ويقبل، ولا يجحد، ولا يكفر... وأصل الكفران: الستر، والشكر هو الإظهار. ويخبر عز وجل أنه لا يستر ما عملوا من الحسنات والخيرات، بل يشكر، ويظهر..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الكفران: مثل في حرمان الثواب... وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" من "للتبعيض لا للجنس؛ إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها، فالمعنى: من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن عباس: مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وذلك هو معنى قوله تعالى، فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً بالفضل: {فمن يعمل} أي منهم الآن من {الصالحات وهو} أي والحال أنه {مؤمن} أي بان لعمله على الأساس الصحيح {فلا كفران} أي إبطال بالتغطية {لسعيه} بل نحن نجزيه عليه بما يستحقه ونزيده من فضلنا {وإنا له} أي لسعيه الآن على عظمتنا {كاتبون} وما كتبناه فهو غير ضائع، بل باق، لنطلعه على يوم الجزاء بعد أن نعطيه قدرة على تذكره، فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أن قسميه؛ ومن يعمل من السيئات وهو كافر فلا نقيم له وزناً، ومن عمل منها وهو مؤمن فهو في مشيئتنا، ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا ومفهوما، فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} أي: الأعمال التي شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب... أي: ومن لم يعمل من الصالحات، أو عملها وهو ليس بمؤمن، فإنه محروم، خاسر في دينه، ودنياه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا هو قانون العمل والجزاء.. لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الإيمان.. وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء ولا يغيب. ولا بد من الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته. إن الإيمان هو قاعدة الحياة، لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود، والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء. والعمل الصالح هو هذا البناء. فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته. والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر.. والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق. ومن ثم يقرن القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان. والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة، لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم، ولا موصول بناموس مطرد. وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود. وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح، لأنه وسيلة البناء في هذا الكون، ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة. فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها، لا فلتة عابرة، ولا نزوة عارضة، ولا رمية بغير هدف، ولا اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكفران مصدر،أصله عدم الاعتراف بالإحسان، ضد الشكران. واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز؛ لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عُرفاً كقوله تعالى: {وما تفعلوا من خير فلن تكفروه} [آل عمران: 115] فالمعنى: أنهم يُعطَون جزاء أعمالهم الصالحة. وأكد ذلك بقوله: {وإنا له كاتبون} مؤكداً بحرف التأكيد للاهتمام به. والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة.
{فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} ربط العمل الصالح بالإيمان، لأنه منطلق المؤمن في كل ما يأتي وفي كل ما يدع، لينال بعمله سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. أما من يعمل الصالح لذات الصلاح ومن منطلق الإنسانية والمروءة، ولا يخلو هذا كله في النهاية عن أهواء وأغراض، فليأخذ نصيبه في الدنيا، ويحظى فيها بالتكريم والسيادة والسمعة، وليس له نصيب في ثواب الآخرة، لأنه فعل الخير وليس في باله الله.