أي ما ضَلَّ عن التوحيد قط ، { وَمَا غَوَى } : الغَيُّ : نقيضُ الرُّشد . . وفي هذا تخصيصٌ للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تولّى- سبحانه - الذّبَ عنه فيما رُميَ به ، بخلاف ما قال لنوح عليه السلام وأذِنَ له حتى قال : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } [ الأعراف : 61 ] ، وهود قال : { لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } [ الأعراف : 67 ] . وغير ذلك ، وموسى قال لفرعون : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً }
[ الإسراء : 102 ] . وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } : معناه ما ضلَّ صاحبُكم ، ولا غَفَل عن الشهود طَرْفَةَ عينٍ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ( 4 ) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 ) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 ) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( 18 ) }
ما ضلّ : ما حاد عن الطريق المستقيم .
صاحبكم : محمد صلى الله عليه وسلم .
وما غوى : ما اعتقد باطلا ، والخطاب في هذا لقريش .
وما ينطق عن الهوى : ما يتكلم بالباطل .
1 ، 2 ، 3 ، 4- { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
يقسم الله تعالى بالنجم الذي يُهتدى به في ظلمات البر والبحر .
والنجوم عالم كبير متحرك ، له مسارات منتظمة لا تصطدم ببعضها ، بل تسير بحكمة الله وقدرته الذي يمسك بنظام هذا الكون .
قال تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . ( الواقعة : 75-80 )
يقسم الله بالنجوم عند إدبارها آخر الليل ، أو بالنجم الذي يهوي شهابا ثاقبا فيقتل الشياطين أو يخبلها .
وكانت الشياطين ترصّ بعضها فوق بعض ، حتى يكون آخر شيطان يستطيع أن يتسمَّع إلى كلام الملائكة ، فيسترق السمع ، ويخبر به الكهَّان ، فيكذب الكاهن مع هذا الأمر مائة كذبة ، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شُدَّت الحراسة على السماء ، فمن حاول استماع الغيب أصابه شهاب ثاقب ( نجم يهوى ) فيقتله أو يخبله ، فلما أخبرت الجنّ رئيسها بذلك ، قال لهم : انطلقوا في الأرض فانظروا ما حدث فيها ، فانطلقت طائفة إلى مكة ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ببطن نخلة يقرأ القرآن ، وقد وردت هذه المعاني في صدر سورة الجن ، وفي حديث نبوي شريف بالجامع الصحيح للإمام البخاري .
وفي أول سورة الجن يقول تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } . ( الجن : 1-2 ) .
وفي الآيتين ( 8-9 ) من سورة الجن يقول الله تعالى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } . ( الجن : 8-9 )
أقسم الله تعالى بالنجم الذي يهوى شهابا ثاقبا ، وسهما مصيبا يقتل الجنّي أو يخبله ، أو أقسم بالنجوم عند إدبارها في آخر الليل ، أو أقسم بنجم الشعرى ، وكان بعض العرب يعبده ، وكان قدماء المصريين يوقنون فيضان النيل ، بعبور الشّعرى بالفلك الأعلى ، ويرصدونه من أجل ذلك ، ويرقبون حركاته ، وللشّعرى في شأن أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء .
وقيل : أقسم الله بالثّريا ، وقيل : أقسم بجنس النجم الذي له هذه الصفات الجليلة ، والحركة المنتظمة .
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . ما بعُد محمد صلى الله عليه وسلم عن الحقّ ، وما غاب عن الهدى .
{ وما غوى } : وما خاب ولا انخرط في سلك الجهال الضالين ، بل هو راشد مهتد ، يحمل النّور والهدى ، كما يحمل النجم الضوء للسّارين ، وإن جبريل لينزل عليه في سرعة النجم إذا هوى .
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } : إن كلامه وحديثه وأقواله لا تصدر عن هوى وغرض .
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
إن ما ينطق به محمد صلى الله عليه وسلم هو وحي السماء ، هو القرآن الكريم الذي ينقله جبريل عن الله عز وجل ، ثم يتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل بواسطة الوحي .
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه ، حيث كان يرغب في كتابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق " .
{ مَا ضَلَّ صاحبكم } أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله { وَمَا غوى } أي وما اعتقد باطلاً قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على { مَا ضَلَّ } من عطف الخاص على العام اعتناءاً بالاعتقاد ، وإشارة إلى أنه المدار .
وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل : وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين { مَا ضَلَّ } عنها محمد صلى الله عليه وسلم { وَمَا غوى } فهو من باب
. وثناياك أنها إغريض *** والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبراً ببراءته صلى الله عليه وسلم مما نفى عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم ، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم : فاوضت جار الله في قوله تعالى : { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] فقال : العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل ؟ا وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا ، فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف ، والتقدير وهوى النجم إذا هوى فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني ، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره ، وقال عبد القاهر : إخبار الله تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي ، وقيل : إنه متعلق بعامل هو حال من النجم ، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبراً ولا حالاً عن جثة كما هنا ، وأن { إِذَا } للمستقبل فكيف يكون حالاً إلا أن تكون حالاً مقدرة أو تجرد { إِذَا } لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتداً به ، فمجيء الزمان خبراً أو حالاً عن جثة ليس ممنوعاً على الإطلاق كما ذكره النحاة ، أو النجم لتغيره طلوعاً وغروباً أشبه الحدث ، والإنصاف أن جعله حالاً كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه ، وإنما الوجه ، على ما قيل ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخاً عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في «المغنى » وتخصيص القسم بوقت الهوى ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة ، وأما على الأولين فقيل : لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب ، وإنما يهتدي به عند هبوطه ، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو ، وقيل : لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عز وجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام { لا أُحِبُّ الافلين } [ الأنعام : 76 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل .
وقوله - سبحانه - : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } . جواب القسم . و " ما " نافية . و " ضل " من الضلال ، والمراد به هنا : عدم الاهتداء إلى الحق ، وإلى الطريق المستقيم .
و " غوى " من الغى ، وهو الجهل الناشىء من اعتقاد فاسد ، وهو ضد الرشد .
و " الهوى " الميل مع شهوات النفس ، دون التقيد بما يقتضيه الحق ، أو العقل السليم .
والمعنى : وحق النجم الذى ترونه بأعينكم - أيها المشركون - عند غربوه وأفوله ، وعند رجمنا به للشياطين . . . إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسلناه إليكم - { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } ما ضل عن طريق الحق فى أقواله وأفعاله ، وما كان رأيه مجانبا للصواب فى أمر من الأمور ، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما ينطق بما نوحيه إليه من قرآن كريم ، ومن قول حيكم ، ومن توجيه سديد .
وقد أقسم - سبحانه - بالنجم عند غروبه ، للإشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإرادة الله - تعالى - وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره فى السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول ، إذا ما أراد الله - تعالى - له ذلك ، ولا يصلح أن يكون إلها ، لأنه خاضع لإرادة خالقه .
ولقد حكى - سبحانه - عن نبيه إبراهيم أنه حين { جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين } قال بعض العلماء : والوجه أن يكون قوله : { إِذَا هوى } بدل اشتمال من النجم ، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ، ومن أعظم أحواله حال هويّه وسقوطه ، ويكون " إذا " اسم زمان مجردا عن معنى الظرفية ، فى محل جر بحرف القسم . .
وقال - سبحانه - : { صَاحِبُكُمْ } للإشارة إلى ملازمته صلى الله عليه وسلم - لهم ، طوال أربعين سنة قبل البعثة ، وأنهم فى تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق ، والأمانة ، والعقل الراجح ، والقول السديد . . . وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له ، ومطلعين على سلوكه بينهم ، فقولهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر أو مجنون . . . هو نوع من كذبهم البين ، وجهلهم المطبق . .
قوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } وهذا جواب القسم . وضل ، من الضلال وهو ضد الرشاد{[4370]} وغوى ، من الغي ، وهو الانهماك في الجهل وهو خلاف الرشد . والإسم الغواية{[4371]} والمعنى : ما حاد محمد عن سبيل الحق وما مال عن الصواب وهو طريق الله المستقيم { وما غوى } يعني ما صار غاويا وما تلبس بضلال أو غواية ولكنه رشيد سديد ، فما ضل عن الحق ولا تكلم بالباطل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما ضل صاحبكم} محمد {وما غوى} وما تكلم بالباطل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى "يقول تعالى ذكره: ما حاد صاحبكم أيها الناس عن الحقّ ولا زال عنه، ولكنه على استقامة وسداد.
ويعني بقوله: "وَما غَوَى": وما صار غويّا، ولكنه رشيد سديد...
وقوله: "ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ" جواب قسم "والنجم".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أي ما ضلّ عما نزل به القرآن وعما أُمر به لأنهم كانوا يدّعون عليه الضلال أن خالف دينهم ودين آبائهم، فقال: ما ضل هو عمّا أُمره، وما غَوى. والثاني: {ما ضلّ صاحبُكم وما غوى} إذ ليس بساحر ولا شاعر لأنهم كانوا يقولون: إنه شاعر وإنه ساحر، فقال: ليس هو كذلك، ما ضلّ بالسّحر، وما غوى بالشّعر على ما قال عز وجل {والشعراء يتّبعُهم الغاوون} [الشعراء: 224] بل رَشَد، واهتدى...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: ما ضل عن قصد الحق ولا غوى في اتباع الباطل.
الثاني: ما ضل بارتكاب الضلال، وما غوى بأن خاب سعيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي ما ضَلَّ عن التوحيد قط وفي هذا تخصيصٌ للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تولّى- سبحانه -الذّبَ عنه فيما رُميَ به، بخلاف ما قال لنوح عليه السلام وأذِنَ له حتى قال: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} [الأعراف: 61]، وهود قال: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف: 67]. وغير ذلك، وموسى قال لفرعون: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء: 102]. وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضلال أبداً يكون من غير قصد من الإنسان إليه. والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين، و {غوى}: الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالاً بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها...
{ما ضل صاحبكم وما غوى} أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي، والذي قاله بعضهم عند محاولة الفرق: أن الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد، قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} وقال تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالا في الوضع، تقول ضل بعيري ورحلي، ولا تقول غوى، فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا، والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم، يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد، ولا تقول إنه ضال، والضال كالكافر، والغاوي كالفاسق، فكأنه تعالى قال: {ما ضل} أي ما كفر، ولا أقل من ذلك فما فسق، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} أو نقول الضلال كالعدم، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.
وقوله {صاحبكم} فيه وجهان: (الأول) سيدكم (والآخر) مصاحبكم، يقال صاحب البيت ورب البيت، ويحتمل أن يكون المراد من قوله {ما ضل} أي ما جن، فإن المجنون ضال، وعلى هذا فهو كقوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون} فيكون إشارة إلى أنه ما غوى، بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر، كما قال تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر} وقال: {إن أجري إلا على الله} وقوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} إشارة إلى قوله هاهنا {وما ينطق عن الهوى} فإن هذا خلق عظيم، ولنبين الترتيب فنقول: قال أولا {ما ضل} أي هو على الطريق {وما غوى} أي طريقه الذي هو عليه مستقيم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فنزه الله [سبحانه وتعالى] رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود، وعن علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلوات الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد؛ ولهذا قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ما ضل} أي عدل عن سواء المحجة الموصلة إلى غاية المقصود، أي أنه ما عمل عمل الضالين يوماً من الأيام، فمتى تقول القرآن عنده ولا علم فيه عمل المجانين ولا غيرهم ما رموه به. وأما {وجدك ضالاً} [الضحى: 7] فالمراد غير عالم، وعبر بالصحبة مع كونها أدل على القصد مرغبة لهم فيها ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طيب أعرافه وطهارة شمائله وأخلاقه فقال: {صاحبكم} أي في إنذاره لكم في القيامة فلا وجه لكم في اتهامه. ولما كان الهدى قد يصحبه ميل لا يقرب الموصول إلى القصد وإن حصل به نوع خلل في القرب أو نحوه فقد يكون القصد مع غير صالح قال: {وما غوى} وما مال أدنى ميل ولا كان مقصوده مما يسوء فإنه محروس من أسبابه التي هي غواية الشياطين وغيرها...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{مَا ضَلَّ صاحبكم} أيْ ما عدَلَ عن طريقِ الحقِّ الذي هُو مسلكُ الآخرةِ. {وَمَا غوى} أيْ وما اعتقدَ باطلاً قطُّ أيْ هُو في غايةِ الهُدى والرُّشدِ وليسَ مما تتوهمونَهُ من الضلالِ والغوَايةِ في شيء أَصلاً، وأما على الثالثِ فلأنَّه تنويهٌ بشأنِ القُرآنِ كما أشيرَ إليه في مطلعِ سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ وتنبيهٌ على مناطِ اهتدائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومدارِ رشادِه، كأنَّه قيلَ والقرآنِ الذي هُو عَلَمٌ في الهدايةِ إلى مناهجِ الدِّينِ ومسالكِ الحقِّ ما ضلَّ عنَها محمدٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وما غَوى. والخطابُ لقريشٍ، وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوانِ صاحبيتِه لهم للإيذانِ بوقوفِهم على تفاصيلِ أحوالِه الشريفةِ وإحاطتِهم خُبراً ببراءتِه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ مما نُفي بالكليةِ وباتصافِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغايةِ الهُدَى والرشادِ فإنَّ طولَ صُحبتهِم له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومشاهدتَهم لمحاسنِ شؤونِه العظيمةِ مقتضيةٌ لذلكَ حتْمَاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فصاحبكم راشد غير ضال. مهتد غير غاو. مخلص غير مغرض. مبلغ بالحق عن الحق غير واهم ولا مفتر ولا مبتدع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المقصود، وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق. والغواية: فساد الرأي وتعلقه بالباطل. والصاحب: الملازم للذي يضاف إليه وصف صاحب، والمراد بالصاحب هنا: الذي له ملابسات وأحوال مع المضاف إليه، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم وإيثار التعبير عنه بوصف {صاحبكم} تعريض بأنهم أهل بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة إطلاعهم على أحواله وشؤونه إذ هو بينهم في بلد لا تتعذر فيه إحاطة علم أهله بحال واحد معين مقصود من بينهم. وهذا رد من الله على المشركين وإبطال لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا في القرآن: إنْ هذا إلا اختلاق. فالجنون من الضلال لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب، والكذبُ والسحر ضلال وغواية، والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224] أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ}... كأنه سبحانه يقول: وإنْ سقط النجم الذي يهدي السائرين، فنجم محمد لا يسقط أبداً، نجم السماء يهدي للماديات وهي موقوتة، ونجم محمد يهدي للقيم وللمعنويات وهي باقية دائمة.
ومعنى {مَا ضَلَّ..} أي: ما حاد عن الحق ولا مال عنه، ولا عدل عن سبيل الهدى {صَاحِبُكُمْ..} هو محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحب القوم واحد منهم مُحبَّب إليهم ذو مكانة بينهم {وَمَا غَوَىٰ} الغواية هي الاعتقاد الباطل، فما اعتقد محمد اعتقاداً باطلاً أبداً حتى قبل بعثته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والتعبير ب «الصاحب» أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة!