فلا طريق إلا الطريق الذي ينتهي إليه . ولا ملجأ من دونه . ولا مأوى إلا داره : في نعيم أو جحيم . . ولهذه الحقيقة قيمتها وأثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوره فحين يحس أن المنتهى إلى الله منتهى كل شيء وكل أمر . وكل أحد . فإنه يستشعر من أول الطريق نهايته التي لا مفر منها ولا محيص عنها . ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة ؛ أو يحاول في هذا ما يستطيع . ويظل قلبه ونظره معلقين بتلك النهاية منذ أول الطريق !
قوله جلّ ذكره : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتُهَى } .
إليه المرجعُ والمصيرُ ، فابتداءُ الأشياءِ من الله خَلْقاً . وانتهاءُ الأشياءِ إلى الله مصيراً .
ويقال : إذا انتهى الكلامُ إلى اللَّهِ تعالى فاسْكُتُوا .
ويقال : إذا وَصَلَ العبدُ إلى معرفةِ الله فليس بعدَه شيءٌ إلا ألطافاً من مالٍ أو منالٍ أو تحقيق آمالٍ أو أحوالٍ . . . يُجْريها على مرادِه - وهي حظوظٌ للعباد .
المنتهى : انتهاء الخلق ورجوعهم إلى الله تعالى .
42- { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } .
إليه سبحانه نهاية كل مخلوق ، حيث يكون حسابه مع عالم الغيب والشهادة ، وتلك فكرة الإسلام : إن الإنسان من أول حياته إلى آخرها يعلم أن النهاية والحساب والجزاء والثواب والعقاب سيكون أمام الله ، الحكم العدل ، سريع الحساب ، الذي لا يظلم مثقال ذرة .
قال تعالى : { وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } . ( الكهف : 49 ) .
وقيل : معنى : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } .
أي : إننا نتفكر في خلق الله ، ولا نتفكر في ذات الله ، فالله منزه عن الكم والكيف والطول والعرض ، لا يحدّه مكان ، ولا يحويه زمان ، بل هو فوق المكان والزمان ، هو أول بلا ابتداء ، حيث كان الله ولا شيء معه ، وهو آخر بلا انتهاء ، فالخلائق تفنى كلها ، والله باق لا يموت .
قال تعالى : { كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . ( الرحمن : 26-27 ) .
وقال سبحانه وتعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . ( الشورى : 11 ) .
فالله تعالى ليس جسما ولا حالا في جسم ، ولا يشبه الحوادث ، وهو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، وهو علة العلل ، يخلق ولا يُخلق ، يجير ولا يجار عليه ، لا معقب لأمره ، ولا رادّ لقضائه .
قال تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } . ( الحديد : 3 ) .
وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن : " تفكروا في مخلوقات الله ، ولا تتفكروا في ذات الله . . . " xv
وفي الصحيح : " يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذ بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينْته " xvi .
{ وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالاً ولا اشتراكاً ، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد : أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الانتهاء ، وقيل : المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها ، وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية : «لا فكرة في الرب » وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري ، وروى عنه عليه الصلاة والسلام : «إذا ذكر الرب فانتهوا » وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس قال : «مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه » وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا » .
واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه ، والبحث في ذلك طويل ، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع ، وقرأ أبو السماء ، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف .
قوله تعالى : { وأن إلى ربك المنتهى } أي : منتهى الخلق ومصيرهم إليه ، وهو مجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد الشيباني أنبأنا محمد بن سليمان بن الفتح الحنبلي ، حدثنا علي بن محمد المصري ، أنبأنا أبو إسحاق بن منصور الصعدي ، أنبأنا العباس بن زفر ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :{ وأن إلى ربك المنتهى } قال : لا فكرة في الرب ، وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق . فإنه لا تحيط به الفكرة " .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته ورحمته ، فقال - تعالى - : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } . أى : وأن إلى ربك وحده - لا إلى غيره - انتهاء الخلق ومرجعهم ومصيرهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
فقوله : { المنتهى } : مصدر بمعنى الانتهاء ، والمراد بذلك مرجعهم إليه - تعالى - وحده ،
قوله تعالى : { وأنّ إلى ربك المنتهى 42 وأنه هو أضحك وأبكى 43 وأنه هو أمات وأحيا 44 وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى 45 من نطفة إذا تمنى 46 وأنّ عليه النشأة الأخرى 47 وأنه هو أغنى وأقنى 48 وأنه هو رب الشّعرى 49 وأنه أهلك عادا الأولى 50 وثمودا فما أبقى 51 وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى 52 والمؤتفكة أهوى 53 فغشاها ما غشى 54 فبأي آلاء ربك تتمارى } .
هذه جملة دلائل وآيات في الطبيعة والخلق والكائنات تحمل الأذهان على التدبر والذكرى لتستيقن أن الله حق وأنه خالق كل شيء وأنه الحكيم المقتدر . وذلك كله مبدوء بالتأكيد على أن كل شيء صائر إلى الله وأن نهايته إليه سبحانه حيث الحساب والجزاء وهو قوله : { وأن إلى ربك المنتهى } والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء . أي ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه كقوله سبحانه : { وإلى الله المصير } .