وما دام أن إبراهيم - عليه السلام - كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ، فليس لأي من اليهود أو النصارى - أو المشركين أيضا - أن يدعي وراثته ، ولا الولاية على دينه ، وهم بعيدون عن عقيدته . . والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام . حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض ، إذا أنبت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان . فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه . بالنفخة التي جعلت منه إنسانا . ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه . ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج ! والولاية بين فرد وفرد ، وبين مجموعة ومجموعة ، وبين جيل من الناس وجيل ، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة . يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن . والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة . والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان ، ومن وراء فواصل الدم والنسب ، والقوم والجنس ؛ ويتجمعون أولياء - بالعقيدة وحدها - والله من ورائهم ولي الجميع :
( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا . والله ولي المؤمنين )
فالذين اتبعوا إبراهيم - في حياته - وساروا على منهجه ، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه . ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين . ثم الذين آمنوا بهذا النبي [ ص ] فالتقوامع إبراهيم - عليه السلام - في المنهج والطريق .
فهم حزبه الذين ينتمون إليه ، ويستظلون برايته ، ويتولونه ولا يتولون أحدا غيره . وهم أسرة واحدة . وأمة واحدة . من وراء الأجيال والقرون ، ومن وراء المكان والأوطان ؛ ومن رواء القوميات والأجناس ، ومن وراء الأرومات والبيوت !
وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني . وتميزه من القطيع ! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود . لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية . فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر . . على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه - إن كانت رابطة التجمع هي الجنس - ولا يملك أن يغير قومه - إن كانت رابطة التجمع هي القوم - ولا يملك أن يغير لونه - إن كانت رابطة التجمع هي اللون - ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة - ولا يملك بيسر أن يغير طبقته - إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة - بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلا . ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبدا دون التجمع الإنساني ، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور . . الأمر المتروك للاقتناع الفردي ، والذي يملك الفرد بذاته ، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره ، وأن ينضم إلى الصف على أساسه .
وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان ، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره ، المميزة له من القطيع !
والبشرية إما أن تعيش - كما يريدها الإسلام - أناسي تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور . . وإما أن تعيش قطعانا خلف سياج الحدود الأرضية ، أو حدود الجنس واللون . . وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع ! ! !
ثم قال تعالى : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبي - يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَنْ بعدهم .
قال سعيد بن منصور : أخبرنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وإنَّ وَليِّي مِنْهُمْ أبي وخَلِيلُ رَبِّي عز وجل " . ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ]{[5161]} } .
وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزُّبيري ، عن سفيان الثوري ، عن أبيه ، به{[5162]} ثم قال البزار : ورواه غير{[5163]} أبي أحمد ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله ، ولم يذكر{[5164]} مسروقا . وكذا رواه الترمذي من طريق وَكِيع ، عن سفيان ، ثم قال : وهذا أصح{[5165]} لكن رواه وكيع في تفسيره فقال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكره .
وقوله : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } أي : ولي جميع المؤمنين برسله .
ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكداً أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهنا يدخل كل من اتبع الحنيفية في الفترات { وهذا النبي } محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة ، { والنبي } في الإعراب نعت أو عطف بيان ، أو بدل ، وفي كونه بدلاً نظر ، { والذين آمنوا } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين ، ثم أخبر أن الله تعالى { ولي المؤمنين } ، وعداً منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة ، و«الحنيف »{[3234]} مأخوذ من الحنف ، وهو الاستقامة وقيل هو الميل ، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف ، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم ، ومن الميل معناه المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق ، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة الحنيف ، حتى قال بعضهم : الحنيف الحاج ، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه كالحج وغيره ، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه ، فلقي عالماً من اليهود ، فسأله عن دينه ، وقال له : إني أريد أن أكون على دينكم ، فقال اليهودي : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ قال : ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً ، قال وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وكان لا يعبد إلا الله ، فخرج من عنده فلقي عالماً من النصارى ، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي ، إلا أن النصراني قال : بنصيبك من لعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعاً يديه إلى الله ، وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم ، وروى عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ، ثم قرأ { إن أولى الناس بإبراهيم } الآية{[3235]} .
استئناف ناشيء عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم ، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به ، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون : نحن أولى بدينكم .
و ( أولى ) اسم تفضيل أي أشد ولْياً أي قرباً مشتق من وَلِي إذا صار وَليّاً ، وعدّي بالباء لتضمّنه معنى الاتصال أي أخصّ الناس بإبراهيم وأقربهم منه . ومن المفسّرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطرّ إلى تقدير مضاف قبل قوله : { بإبراهيم } أي بدين إبراهيم .
والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته : مثل لوط وإسماعيل وإسحاقَ ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها ، مثل زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل ، وأميةَ ابن أبي الصّلْت ، وأبيه أبي الصَّلت ، وأبي قيْس صِرمَة بن أبي أنس من بني النجّار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " كاد أمية بن أبي الصّلْت ، أن يُسلم " وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفاً ، وفي « صحيح البخاري » : أنّ زيد بن عَمرو بن نُفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين فلقي عالماً من اليهود ، فسأله عن دينه فقال له : إنّي أريد أن أكونَ على دينك ، فقال اليهوديّ : إنّك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : أفِرُّ إلاّ من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ قال : لا أعلمه إلاّ أن تكون حنيفاً ، قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وكان لا يعبد إلاّ الله ، فخرج من عنده فلقي عالماً من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي ، غير أنّ النصراني قال : أن تأخذ بنصيبك من لَعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء وقال : اللهم أشهَدْ أنّي على دين إبراهيم وهذا أمنية منه لا تصادف الواقع . وفي « صحيح البخاري » ، عن أسماء بنت أبي بكر : قالت : رأيت زيدَ بن عَمرو بن نُفيل قبل الإسلام مسنِداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول : « يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري » وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيدَ بن عمرو بن نُفيل بأسفل بَلْدَح قبل أن يَنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفرة فأبى زيدُ بن عمرو أنْ يأكل منها وقال : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهّم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كما تفعل قريش . وإنّ زيداً كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء أنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله .
واسم الإشارة في قوله : { وهذا النبي } مستعمل مجازاً في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث : " فجعل الفَرَاشُ وهذه الدّوَابُّ تقع في النار " فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها ، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية ، حينئذ ، ولا قُصدت الإشارة إلى ذاته . ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام ، فهو كقول الشاعر : « نجوتِ وهَذا تحملين طَليق » أي والمتكلّم الذي تحملينه . والاسم الواقع بعد اسم الإشارة ، بدلاً منه ، هو الذي يعين جهة الإشارة مَا هي . وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنّه موافق لها في أصولها . والمراد بالذين آمنوا المسلمون . فالمقصود معناه اللقَبي ، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيأيها الذين آمنوا .
ووجه كون هذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم ، مثل الذين اتبعوه ، إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه ، وعرفوا قدره ، وكانوا له لسان صدق دائباً بذكره ، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون ، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه ، وهم اليهود والنصارى ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سَأل عن صوم اليهود ، يوم عاشوراء فقالوا : هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال : « نَحْن أحقّ بموسى منهم » وصامه وأمر المسلمين بصومه .
وقوله : { والله ولي المؤمنين } تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم ، والله ولي إبراهيم ، والذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا ؛ لأنّ التذييل يشمل المذيَّل قطعاً ، ثم يشمل غيره تكميلاً كالعام على سبب خاص . وفي قوله : { والله ولي المؤمنين } بعد قوله : { كان إبراهيم يهودياً } [ آل عمران : 67 ] تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّ أوْلَى النّاسِ بإبْرَاهِيمَ}: إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته، {للّذِينَ اتّبَعُوهُ}: الذين سلكوا طريقه ومنهاجه، فوحدوا الله مخلصين له الدين، وسنوا سننه، وشرعوا شرائعه وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به. {وَهَذَا النّبِيّ}: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. {والذينَ آمَنُوا}: والذين صدّقوا محمدا، وبما جاءهم به من عند الله.
{وَاللّهُ وَلِيّ المُؤْمِنِينَ}: والله ناصر المؤمنين بمحمد المصدقين له في نبوّته، وفيما جاءهم به من عنده على من خالفهم من أهل الملل والأديان.
كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا}: وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر وأطاعه، فهو أولى به، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا، فأخبر جل وعلا أن الذين آمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم، هم المتبعون له، فهم أولى به. وقوله تعالى: {والله ولي المؤمنين} اختلف فيه: الولي الناصر، وقيل: هو أولى بالمؤمنين،... وقد يكون وليهم بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم، وأظهر الحق في قلوبهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي ": أي أحقهم بنصرته بالمعونة أو الحجة، لأن الذين اتبعوه في زمانه تولوه بالنصرة على عدوه حتى ظهر أمره، وعلت كلمته. وسائر المؤمنين يتولونه بالحجة بما كان عليه من الحق وتبرئته من كل عيب، فالله تعالى ولي المؤمنين، لأنه يوليهم النصرة، والمؤمن ولي الله لهذا المعني بعينه. وقيل، لأنه يولي صفاته التعظيم. ويجوز لأنهم يتولون نصرة ما أمره به من الدين. وقيل والله ولي المؤمنين، لأنه يتولى نصرهم. والمؤمنون أولياء الله، لأنهم يتولون نصر دينه الذي أمرهم به...
وقوله: "للذين اتبعوه ": فالاتباع: جريان الثاني على طريقة الأول من حيث هو عليه كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق أو في التصحيح، لأنه إن صح الدليل صح المدلول عليه لصحته، وكذلك المأموم الذي يتبع الامام...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر، بقي أهل الحقِّ في كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى، فكانوا حزباً واحداً، فبعضهم أَوْلى ببعض. وإبراهيم صاحب الحق، ومن دان بدينه -كمثل رسولنا صلى الله عليه وسلم وأمته- على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب {لَلَّذِينَ اتبعوه} في زمانه وبعده {وهذا النبي} خصوصاً {والذين ءامَنُواْ} من أمته.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"وهذا النبي" : أفرد ذكره تعظيما له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نفى عنه صلى الله عليه وسلم كل زيغ بعد أن نفى عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلاً، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكداً رداً عليهم وتكذيباً لمحاجتهم: {إن أولى الناس} أي أقربهم وأحقهم {بإبراهيم للذين اتبعوه} أي في دينه من أمته وغيرهم، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم، ثم صرح بهذه الأمة فقال: {وهذا النبي} أي هو أولى الناس به {والذين آمنوا} أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان {والله} أي بما له من صفات الكمال -وليهم، هذا الأصل، ولكنه قال: {ولي المؤمنين} ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن أولى الناس بإبراهيم} أي أجدرهم بولايته وأحراهم بموافقته: {للذين اتبعوه} في عصره وأجابوا دعوته فاهتدوا بهديه: {وهذا النبي والذين آمنوا} معه فإنهم أهل التوحيد المحض الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالوسطاء والشفعاء، وأهل الإخلاص في الأعمال الذي لا يبطله شرك ولا رياء وهذا روح الإسلام والمقصود من الإيمان. فمن فاته فقد فاته الدين كله لا تغني عنه التقاليد والرسوم ولا تنفعه الوسطاء والأولياء: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 88- 89] بأخذه بحقيقة الإسلام الذي شرع لتنقية القلوب وتزكية النفوس وإعداد الأرواح في الدنيا إلى الدرجات العلى في الأخرى: {والله ولي المؤمنين} الذين لا يتوجهون إلى غيره في كشف ضر ولا طلب نفع فهو يتولى أمورهم ويصلح شؤونهم ويتولى إثابتهم على حسب تأثير الإسلام في قلوبهم ويزيدهم من فضله. فنسأله تعالى أن يجعلنا معهم في الدنيا والآخرة ولا يجعلنا من أهل الجمود على التقاليد الظاهرة الغافلين عن روح الإسلام المفتونين باتخاذ الأولياء والأمراء. هذا وليس عندنا في هذه الآيات شيء عن الأستاذ الإمام وما قلناه موافق لطريقته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما دام أن إبراهيم -عليه السلام- كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، فليس لأي من اليهود أو النصارى -أو المشركين أيضا- أن يدعي وراثته، ولا الولاية على دينه، وهم بعيدون عن عقيدته.. والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام. حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض، إذا أنبت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان. فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه. بالنفخة التي جعلت منه إنسانا. ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه. ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج! والولاية بين فرد وفرد، وبين مجموعة ومجموعة، وبين جيل من الناس وجيل، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة. يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن. والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة. والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان، ومن وراء فواصل الدم والنسب، والقوم والجنس؛ ويتجمعون أولياء -بالعقيدة وحدها- والله من ورائهم ولي الجميع:... (والله ولي المؤمنين).. فهم حزبه الذين ينتمون إليه، ويستظلون برايته، ويتولونه ولا يتولون أحدا غيره. وهم أسرة واحدة. وأمة واحدة. من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان؛ ومن رواء القوميات والأجناس، ومن وراء الأرومات والبيوت!
وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني. وتميزه من القطيع! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود. لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية. فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر.. على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه -إن كانت رابطة التجمع هي الجنس- ولا يملك أن يغير قومه -إن كانت رابطة التجمع هي القوم- ولا يملك أن يغير لونه -إن كانت رابطة التجمع هي اللون- ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة -ولا يملك بيسر أن يغير طبقته- إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة -بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلا. ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبدا دون التجمع الإنساني، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور.. الأمر المتروك للاقتناع الفردي، والذي يملك الفرد بذاته، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره، وأن ينضم إلى الصف على أساسه. وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره، المميزة له من القطيع! والبشرية إما أن تعيش- كما يريدها الإسلام -أناسي تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور.. وإما أن تعيش قطعانا خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون.. وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته: مثل لوط وإسماعيل وإسحاقَ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها،... واسم الإشارة في قوله: {وهذا النبي} مستعمل مجازاً في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث:"فجعل الفَرَاشُ وهذه الدّوَابُّ تقع في النار" فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قُصدت الإشارة إلى ذاته. ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام، فهو كقول الشاعر: « نجوتِ وهَذا تحملين طَليق» أي والمتكلّم الذي تحملينه... والمراد بالذين آمنوا المسلمون. فالمقصود معناه اللقَبي، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيأيها الذين آمنوا...
وفي قوله: {والله ولي المؤمنين} بعد قوله: {كان إبراهيم يهودياً} [آل عمران: 67] تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قد أكد سبحانه اتصالهم بإبراهيم بثلاثة تأكيدات؛ أولها:"إن". وثانيها:أفعل التفضيل. وثالثها:اللام في قوله تعالى: {للذين اتبعوه}...
وفي هذه الجملة السامية إشارة على عدة معان عالية: أولها:ان اتصال النبي صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه، والذين اتبعوا إبراهيم بخليل الله؛ لأنهم اتصلوا بالله تعالى، والمؤمنون بعضهم لبعض ولى ونصير؛ لأنهم جميعا أولياء الله.فالمؤمنون برسالة محمد كلهم أولياء،لنهم جميعا أولياء الله تعالى،وفي ذلك يبين سبحانه لليهود وغيرهم الطريق الحق الذي يجعلهم أولى بإبراهيم كالنبي ومن اتبعه. ثانيها:الإشارة إلى أن ولاية الله هي الغاية الكبرى التي يجب أن يطلبها كل مؤمن، وطريقها الإحسان في كل شيء، وأساس الإحسان الإخلاص؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ثالثها:الإشارة إلى منزلة أهل الإيمان عند الله والوعد بنصرتها مهما يتكاثف عددهم: {إن الله لقوي عزيز40} [الحج]...
وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاؤوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتبع إبراهيم عليه السلام، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه...). لوضع حدّ لجدل أهل الكتاب حول إبراهيم، نبيّ الله العظيم، الذي كانت كلّ جهة تدّعي أنّه منها، وكانوا يستندون غالباً إلى قرابتهم منه، أو اشتراكهم معه في العنصر، أعاد القرآن مبدأً رئيساً إلى الأذهان وهو أنّ الارتباط بالأنبياء والولاء لهم إنّما يكون عن طريق الإيمان واتّباعهم فقط. وبناءً على ذلك، فإنّ أقرب الناس لإبراهيم هم الذين يتّبعون مدرسته ويلتزمون أهدافه، سواء بالنسبة للذين عاصروه (للذين اتّبعوه) أو الذين بقوا بعده أوفياء لمدرسته وأهدافه، مثل نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه (وهذا النبيّ والذين آمنوا).
والسبب واضح، فاحترام الأنبياء إنّما هو لمدرستهم، لا لعنصرهم وقبيلتهم ونسبهم. وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ من مبادئ دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون بالاستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع أُصول الإسلام وفروعه من أوفى الأوفياء له، فلابدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا أُولئك.
وفي ختام الآية يبشر الله تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول: (والله ولي المؤمنين).
ترى هذه الآية أنّ الرابط الوحيد الذي يربط الناس بالأنبياء هو اتّباع مدرستهم وأهدافهم، ليس غير.
لذلك نجد أنّ النصوص المروية عن أئمة الإسلام تؤكّد هذا الموضوع بصراحة تامّة. من ذلك أنّه جاء في تفسير مجمع البيان ونور الثقلين، نقلاً عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال:
«إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به، ثمّ تلا الآية المذكورة، ثمّ قال: إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته».