قوله : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } ، " إبْراهِيم " متعلِّق به " أوْلَى " و " أوْلَى " أفعل تفضيل ، من الولي ، وهو القُرْب ، والمعنى : إنَّ أقْرَبَ الناسِ به ، وأخصهم ، فألفه منقلبة عن ياء ، لكون فائه واواً ، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء ، لأن فاءَه واوٌ ، فلا تكون لامه واواً ؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه ، هل هي واو - أيضاً - أو ياء .
و{ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } خبر " إن " و { وَهَذَا النَّبِيُّ } نَسَق على الموصول ، وكذلك : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون - رضي الله عنهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر ؛ تشريفاً ، وتكريماً ، فهو من باب قوله تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ : { وَهَذَا النَّبِيُّ } - بالنصب والجر{[5585]} - فالنصب نَسَقاً على مفعول { اتَّبَعُوهُ } فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ ، ويكون قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } نَسَقاً على قوله : { لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } .
والجر نَسَقاً على " إبْرَاهِيمَ " أي : إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي ، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه ، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في " اتَّبَعُوهُ " فيُقَال : اتبعوهما ، اللهم إلا أن يقال : هو من باب : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ثم قال : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ .
روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب ، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر ، فاجمعوا مالاً ، وأهدوه إلى النجاشِيِّ ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم ، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا ، فركِبا البحرَ ، وأتَيَا الحبشةَ ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له ، وسلما عليه ، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون ، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك ؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر ، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا ، لا يدخل عليهم أحدٌ ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه ، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك ، فاحْذَرْهُمْ ، وادْفَعْهم إلَيْنَا ، لنكفِيَكَهُمْ ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ .
فدعاهم النجاشيُّ ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب : يستأذن عليك حزبُ اللهِ ، فقال النجاشيُّ : مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه ، ففعل جَعْفَرُ ، فقال النجاشيُّ : نعم ، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته ، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع ؟ يرطنون ب " حِزْبِ اللهِ " وما أجابهم به النجاشي ! ! ! فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له ، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشِيُّ : ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ ؟ قالوا : نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك ، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام ، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً ، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ ، وهي السلامُ ، وتحية أهل الجنَّةِ ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ ، وأنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف : يستأذنُ عليك حِزْبُ الله ؟ قال جَعْفَر : أنا ، قال : فتكلم ، قال : إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ ، ولا الظلمُ ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين ، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما ، وليُنْصِت الآخرُ ، فيسمع محاورتنا ، فقال عَمْرو لجعفر : تَكَلَّمْ ، فقال جعفر للنجاشيُّ : سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم ، فقال النجاشيُّ : أعبيدٌ هم أم أحرار ؟ فقال لا ، بل أحرارٌ كرام ، فقال النجاشيُّ : نَجَوْا من العبوديَّةِ ، ثم قال جعفرُ : سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق ، فيقتصّ منا ؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة .
قال جعفر : سَلْهُمَا ، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق ، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ : إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو : لا ، ولا قيراط ، فقال النجاشيُّ : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك ، واتَّبَعُوا غيره ، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشيُّ : ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه ، الدين الذي اتبعتموه ؟
قال : أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ ، كنا نكفر بالله ، ونعبد الحجارة ، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ ، جاءنا به من الله رسولٌ ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم ، موافِقاً له .
فقال النجاشيُّ : يا جعفر ، تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رِسْلِك ، ثم أمر النجاشيُّ ، فضُرِب بالنَّاقوس ، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشيُّ : أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً ؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ ، قد بشرنا به عيسَى ، وقال : مَنْ آمن به فقد آمن بي ، ومن كَفَر به فقد كفر بي .
قال النجاشيُّ لجعفَرَ : ماذا يقول لكم هذا الرجلُ ؟ وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا [ كتاب الله ] {[5586]} ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحُسْنِ الجوار ، وصلة الرَّحِم ، وبِرِّ اليتيم ، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له ، فقال : اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم ، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع ، وقالوا : زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ ، فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه ، فقال النجاشِيُّ : ما تقولون في عيسى وأمِّه ، فقرأ عليهم جعفر سورة " مريم " ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال : والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا ، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه ، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ، آمنون ، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم ، ثم قال : أبشروا ، ولا تخافوا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ ، قال عمرو : يا نجاشيُّ ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون ، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه ، وقال : إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة ، فاقبضوها ؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة ، قال جعفرُ : فانصرفْنَا ، فكنا في خير دارٍ ، وأكرم جوارٍ ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عز وجل : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{[5587]} .
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي ، وَخَلِيلُ رَبِّي " ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }{[5588]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.