تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۗ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (68)

الآية 68 وقوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر ، وأطاعه ، فهو أولى به ، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا ، فأخبر جل وعلا أن الذين آمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم ، هم المتبعون له ، فهم أولى به .

وقوله تعالى : { والله ولي المؤمنين } اختلف فيه : الولي الناصر ، وقيل : هو أولى بالمؤمنين ، وقد ذكرنا هذا في ما تقدم . وقد يكون وليهم{[3930]} بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم ، وأظهر الحق في قلوبهم .

قال الشيخ ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ آل عمران : 64 ] الآية ، وفي قوله{[3931]} : { لم تلبسون الحق بالباطل } [ آل عمران : 71 ] الآية ، ونوع ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها أهل الكتاب وجوه من المعتبر :

أحدها : أن الذين خوطبوا بهذا الاسم كانوا معروفين ، وأنه [ لم يخطر ببال مسلم أنه ]{[3932]} قصد به غير أهل التوراة والإنجيل ، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم ، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب ، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم ، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس مما تضمنهم قوله : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] لكن بدليل آخر ، وهو ما روي عن نبي الله أنه قال : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) [ البيهقي في الكبرى : 189 و 190 ] وعلى ذلك أيد قوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [ الأنعام : 156 ] ليعلم أن الكتاب المعروف وأهله هؤلاء ، وإن كانت ثم كتب وصحف ، والله أعلم .

والثاني : أن الله خص أهل الكتاب بأنواع الحجج ، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوضح أنه ، وإن كان مرسلا إلى جميع البشر كان له التخصيص في المحاجة . وعلى ذلك عامة سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك ، [ على أن أهل المدينة كانوا أهل الكتاب ، وأهل مكة كانوا أهل شرك ، فحاج كلا بالذي فرض أن يتكلم فيه ، وإن كانت الحجة تلزم الفريقين ، لأن محاجة أهل الشرك ]{[3933]} أكثرها في التوحيد وأمر البعث ، وعلى وجوده فيه في أهل الكتب بعض المشاركة لهم ، ومحاجة أهل الكتاب بما في كتبهم ، وفيه وجهان :

أحدهما : العلم بما قد غاب عن السبب الذي يوصل إليه الكسب ليعلم أنه وصل إليه بالوحي ، فيكون من ذلك الوجه حجة على الفريقين .

والثاني : ظهور سنة أهل الكتاب بوجه تسقط عند التأمل الريبة [ في المحل الذي ]{[3934]} كان يمنعهم ذلك [ التأمل فيه ]{[3935]} عن اتباعه ، وذلك [ التأمل فيه ]{[3936]} مديح كتبهم والشهادة{[3937]} لها بالصدق والحق وإظهار الإيمان برسلهم ليعلم أنه ليس بين الرسل والكتب اختلاف في الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده ، وأن أولئك إنما كذبوا لتسلم لهم الرياسة ، ثم مع ذلك ظاهروا أهل الشرك المكذبين لكتبهم ورسلهم ليعلم كل ذي عقل سفههم{[3938]} في الباطل ، إذ ظاهروا أعداءهم في الدين [ على الذين ]{[3939]} أظهروا الموالاة {[3940]}في الدين [ ومن هو ]{[3941]} ولي له ، فيكون ذلك أبلغ الزجر لمتعنتيهم وأعظم الحجة عليهم في ما آثروا من السنة ، وتركوا الحق ، والله أعلم .

وفي ذلك وجه آخر أن أهل الشرك قد عرفوا حاجاتهم إلى أهل الكتاب في أمور الدين وما عليه السياسة ، فيصير ما يلزم أولئك من الحجة لازمة لهم في محاجته بالذي في كتبهم لزوم الحجة معا عليهم في ذلك بما أقسموا { بالله جهد أيمانهم } الآية [ فاطر : 43 ] أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب إذ تمنوا أن يكون منهم نذير ، فكان وقد{[3942]} بلغ المبلغ الذي ظهر بما خصوا من الحجج ، وشاركوا أولئك في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل ، والله أعلم . مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهرت{[3943]} كتبهم لغير لسانهم ليعلموا أنه أدرك{[3944]} ذلك بمن له حقيقة كتبهم ، والله أعلم .

وفي ذلك وجه آخر أنه حاجهم بوجهين :

أحدهما : بالموجود في كتابهم والمعروف عند أئمتهم من العلم بالكلمة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر وإخبار ما في كتبهم من أنواع البشارات به ومن موافقة الكتب . وعلى ذلك أمر إبراهيم عليه السلام وغيره{[3945]} ليكون أعظم في الحجة وأقطع للشغب ، والله أعلم .

والثاني : مما قد حرفوا من كتبهم ، وبدلوا من أحكامهم ، وحرفوا من صفته ونعت أمته ليعلم كل متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم ، إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم /61-ب/ دفع ذلك ولا المقابلة في ذلك ليعلم كل الخلائق من انقاد لهم أولا أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سر ونجوى ، ولا قوة إلا بالله ، مع ما في ذلك وجهان من المعتبر .

أحدهما : أن ذلك زمان لم يكن زمان حجاج ونظر في أمر الدين ، إنما كان [ ذلك الزمان تباهيا ]{[3946]} في أمر الدنيا وتفاخرا{[3947]} بكثرة الأموال والمواشي ، فبعث الله تعالى رسولا صلى الله عليه وسلم{[3948]} نشأ من بين أظهرهم دعاهم إلى ترك التقليد واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي وما فيه من حكمة الربوبية ، فكيف [ كان القوم ]{[3949]} أصحاب التقليد : إما ثقة بأئمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة ، وإما ثقة وأمنا{[3950]} بآبائهم في ما نشؤوا عليه أن الحق لا يشذ عنهم ، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعا ؟ لكنهم إذا لم يكونوا أهل نظر في الدين ومحاجة فيه لم يعرفوا أن ذلك يمنعهم التقليد ، فأظهر لهم الحجج{[3951]} ، وأنبأهم بالمودع من حجاج أنبيائهم في كتبهم ، وألزمهم أن في آبائهم [ من يلزم التقليد ، كانوا أحق بذلك مما كان عندهم أن آباءهم ]{[3952]} كانوا على دينهم بما [ هو ]{[3953]} بين من تغييرهم وترك الواجب عليهم من حق الاتباع ، والله اعلم .

والثاني : إذا ظهر فيهم الاختلاف في أئمتهم على ادعاء كل منهم ذلك هو الذي كان عليه الأنبياء والرسل{[3954]} في أهل الكتاب ، وحاجات غيرهم بما ليس عندهم إلا آراء{[3955]} إباء إبليس عندهم ، فضل على القول .

ثم كان معلوم عند الاختلاف والتقوى ، فصارت الحاجة قد عمتهم ، والعلم بهم في لزوم الأحكام إلى من يدلهم على الحجة ، ويعرفهم الحق ، قد تقرر عندهم ، فبعث الله بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجج وأراهم من علمه مما غيره ، وحفظ ، ومما كان عليهم أوائلهم ، فكان ذلك أظهر للبيان وأولى ما يعرف من إفضال الله عليهم بالإغاثة والامتنان عليهم بالفرح مما مستهم إليه الحاجة ، ودفعتهم إلى العلم به الفاقة ، والله الموفق .

وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره ، وهو أن دعاءهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها ، وإلى الآخرة في الدين ، بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر وتقاتل{[3956]} القبائل والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدر عندهم ما إليه ترجع عواقب الأمور ، وقام ذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل العصر آية{[3957]} سماوية خارجة عن وسع البشر ليكون أقطع لعذرهم وأسكن لقلوبهم إليه ، فلله الحمد على ذلك .

وقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء } الآية : قيل فيها بأوجه .

أحدها : أنها العدل ، وهي كلمة التوحيد ، وكانت عدلا باتفاق السنن{[3958]} إذ سئلوا عمن خلق السموات والأرض في الفزع إليها بالإجابة وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر ، والله أعلم . ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق ، وإن خص به أهل الكتاب ، والله أعلم .

وآخر{[3959]} : أن يسوى فيها أنها حق وعدل ، وهي عبادة الواحد الذي لم يختلف في أنه معبود ، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة ، فيرجع إلى حقيقة دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة . وهذا المعنى يلزم الجمع أيضا .

والثالث : أن يكون { إلى كلمة } ظهر أنها عدل في كتابهم . بها جاءت رسلهم ، ونزلت بها كتبهم ، ولا قوة إلا بالله .


[3930]:في الأصل: من وليهم.
[3931]:في الأصل وم: قولهم.
[3932]:من م، ساقطة من الأصل.
[3933]:من م، ساقطة من الأصل.
[3934]:في الأصل: والمحل، في م: والمحل الذي، والمحل هو منتهك الحرام.
[3935]:ساقطة من الأصل وم.
[3936]:في الأصل وم: فيها.
[3937]:في الأصل وم: وشهد.
[3938]:في الأصل وم: شبههم.
[3939]:في الأصل: من الذي، في م: من الذين.
[3940]:من م، في الأصل: موالاته.
[3941]:ساقطة من الأصل وم.
[3942]:من م، الواو ساقطة من الأصل.
[3943]:في الأصل وم: ظهر.
[3944]:في الأصل وم: أدركه.
[3945]:في الأثل وم: وغيرهم.
[3946]:في الأصل وم: الزمان في أمر الدين وتناهي.
[3947]:في الأصل وم: وتفاخر.
[3948]:ساقطة من م.
[3949]:في م: والقوم.
[3950]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[3951]:من م، في الأصل: الحجاج.
[3952]:من م.
[3953]:ساقطة من الأصل وم.
[3954]:من م، في الأصل: هو الرسل.
[3955]:في م: الأواء.
[3956]:في الأصل وم: وتقابل.
[3957]:من م، في الأصل: انه.
[3958]:من م، في الأصل: السن.
[3959]:في الأصل وم: وأجزي.