( وقلنا من بعده لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض . فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) . .
وهكذا كانت عاقبة التكذيب بالآيات . وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون ، موكولين فيها إلى أعمالهم وسلوكهم - وقد عرفنا كيف كان مصيرهم في أول السورة - أما هنا فهو يكلهم هم وأعداءهم إلى جزاء الآخرة ، )فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) .
{ وقلنا من بعده } من بعد فرعون أو إغراقه . { لبني إسرائيل اسكُنوا الأرض } التي أراد أن يستفزكم منها . { فإذا جاء وعد الآخرة } الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة . { جئنا بكم لفيفاً } مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم ، واللفيف الجماعات من قبائل شتى .
ثم ذكر تعالى أمر { بني إسرائيل } بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام ، و { وعد الآخرة } هو يوم القيامة ، و «اللفيف » الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض ، فليس ثم قبائل ولا انحياز ، قال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع ولا واحد له من لفظه ، وقال الطبري هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً و { لفيفاً } وفي هذا نظر فتأمله .
والأرض الثانية أرض الشام وهي المعهودة لبني إسرائيل بوعد الله إبراهيمَ إياها .
ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر .
واللفيف : الجماعات المختلطون من أصناف شتى ، والمعنى : حكمنا بينهم في الدنيا بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين ، وسنحكم بينهم يوم القيامة .
ومعنى { جئنا بكم } أحضرناكم لدينا . والتقدير : جئنا بكم إلينا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 103]
يقول تعالى ذكره: فأراد فرعون أن يستفزّ موسى وبني إسرائيل من الأرض، "فَأَغْرَقْناهُ "في البحر، "وَمَن مَعَهُ" من جنده "جَمِيعا".
ونجّينا موسى وبني إسرائيل، وقلنا لهم مِنْ بَعْدِ هلاك فرعون "اسْكُنُوا الأرْضَ": أرض الشام، "فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخَرِةِ جئْنا بكُمْ لَفيفا" يقول: فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة، "جئنا بكم لفيفا": يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة "لفيفا": أي مختلطين قد التفّ بعضكم على بعض، لا تتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيّه، من قولك: لففت الجيوش: إذا ضربت بعضها ببعض، فاختلط الجميع، وكذلك كلّ شيء خُلط بشيء فقد لُفّ به.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: بل معناه: جئنا بكم جميعا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أورثهم منازلَ أعدائهم، ومكَّنهم من ذخائرهم ومساكنهم، واستوصى بهم شُكرَ نعمته، وعرَّفَهم أنهم إِنْ سلكوا في العصيان مَسْلَكَ مَنْ تَقَدَّمَهم ذاقوا من العقوبة مثلَ عقوبتهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اسكنوا الأرض} التي أراد فرعون أن يستفزكم منها... {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} جمعاً مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم: واللفيف: الجماعات من قبائل شتى...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ذكر تعالى أمر {بني إسرائيل} بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام، و {وعد الآخرة} هو يوم القيامة، و «اللفيف» الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض، فليس ثم قبائل ولا انحياز...
واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف... والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون، موكولين فيها إلى أعمالهم وسلوكهم...
(اسكنوا الأرض) أغلب العلماء قالوا: أي الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس، التي قال تعالى عنها: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم.. "21 "} (سورة المائدة): فكان ردهم على أمر موسى بدخول بيت المقدس: {إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها.. "22 "} (سورة المائدة). وقالوا: {إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون "24 "} (سورة المائدة)...
لكن كلمة (الأرض) هنا جاءت مجردة عن الوصف (اسكنوا الأرض) دون أن يقيدها بوصف، كما نقول: أرض الحرم، أرض المدينة، وإذا أردت أن تسكن إنساناً وتوطنه تقول: اسكن أي: استقر وتوطن في القاهرة أو الإسكندرية مثلاً، لكن اسكن الأرض، كيف وأنا موجود في الأرض بالفعل؟! لابد أن تخصص لي مكاناً اسكن فيه. نقول: جاء قوله تعالى (اسكنوا الأرض) هكذا دون تقييد بمكان معين، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمت عليهم بالتفرق في جميع أنحاء الأرض، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه، كما قال تعالى: {وقطعناهم في الأرض أمماً.." 168 "} (سورة الأعراف): والواقع يؤيد هذا، حيث نراهم متفرقين في شتى البلاد، إلا أنهم ينحازون إلى أماكن محددة لهم يتجمعون فيها، ولا يذوبون في الشعوب الأخرى، فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مستقلة بذاتها لا تختلط بغيرها...
وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً}: والمراد بوعد الآخرة: هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل، حيث قال تعالى عن إفسادهم الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا "4" فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا "5 "} (سورة الإسراء)...
ثم يقول تعالى عن الإفسادة الثانية لبني إسرائيل: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً" 7 "} (سورة الإسراء). وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وعد الله بالقضاء عليهم، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لابد أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمع في وطن قومي لهم كما يقولون، حتى إذا أراد أخذهم لم يفلتوا، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وهذا هو المراد من قوله تعالى: {جئنا بكم لفيفاً}: أي: مجتمعين بعضكم إلى بعض من شتى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين...