( قال موسى : أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون ) . .
وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني . فكأنه قال لهم : أتقولون للحق لما جاءكم : هذا سحر ? أسحر هذا ? وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر ، وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر . فالسحر لا يستهدف هداية الناس ، ولا يتضمن عقيدة ، وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ؛ ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة . فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس . وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض ، ويحقق مثل هذا الاتجاه ؛ وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف .
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .
{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {ولا يفلح الساحرون} في الدنيا والآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 76]
يقول تعالى ذكره:"فَلَمّا جاءَهُم الحَقّ مِنْ عِنْدِنا" يعني: فلما جاءهم بيان ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحقّ الذي جاءهم من عند الله، "قالُوا إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ "يعنون: أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له. قالَ مُوسَى لهم: "أتَقُولُونَ للْحَقّ لَمَا جَاءكُمْ" من عند الله: "أسحْرُ هَذَا"؟...
قال موسى لهم: "أتَقُولُونَ للحَقّ لما جاءَكُمْ" وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه، سحر، أسحر هذا الحقّ الذي ترونه؟ وقوله: "ولا يُفْلِحُ السّاحِرُونَ" يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يبقون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى عن موسى أنه قال لقومه الذين نسبوه إلى السحر "أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا "ويريد بذلك تبكيتهم وتهجينهم. ثم قال موسى "ولا يفلح الساحرون" أي: لا يفوزون بشيء من الخير. ويجوز أن يكون ذلك إخبارا من الله تعالى لا حكاية عن موسى، وذلك يدل على بطلان السحر أجمع...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} على أنه سحر، فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله: {أَتقُولُونَ لِلْحَقّ} أتعيبونه وتطعنون فيه؟ وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] ثم قال: {أَسِحْرٌ هذا} فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دلّ عليه قولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} كأنه قيل: أتقولون ما تقولون، يعني قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله: {أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} كما قال موسى للسحرة: ما جئتم به السحر، إنّ الله سيبطله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما قالوا ذلك كان كأنه قيل: فماذا أجابهم؟ فأخبر أنه أنكر عليهم، بقوله: {قال موسى} ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته {أتقولون للحق} ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله: {لما جاءكم} أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر، فإن القول يطلق على المكروه، تقول: فلان قال في فلان، أي ذمه، وفلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول؛ ثم كرر الإنكار بقوله: {أسحر هذا} أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك. فالآية من الاحتباك: ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول.
ولما كان التقدير: أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه، بني عليه قوله: {ولا يفلح} أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات {الساحرون} أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل، فالظفر بعيد عنهم، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه على قوله: {أسحر هذا} لأنه إنكاري بمعنى النفي، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في كونه أثبت الأشياء وبين السحر، لأنه لا ثبات له أصلاً، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار بما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن إتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر، فقال تعالى حكاية عنهم: {قالوا} أي منكرين عليه معللين بأمرين: التقليد، والحرص على الرئاسة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ} أي قال متعجبا من قولهم: أتقولون هذا الذي قلتم للحق الظاهر، الذي هو أبعد الأشياء عن كيد السحر الباطل، لما جاءكم وعرفتموه واستيقنته أنفسكم، حذف مقول القول لدلالة ما قبله عليه وهو قولهم:"إن هذا لسحر مبين"، وكذا ما بعده، وهو قوله منكرا له، متعجبا منه: {أَسِحْرٌ هَذَا} أي إن هذا الذي ترونه من آيات الله بأعينكم، وترجف من عظمته قلوبكم، لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تصنعه أيديكم.
{ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي والحال المعروف عندكم أن الساحرين لا يفوزون في أمور الجد العملية من دعوة دين وتأسيس ملك وقلب نظام، وهو ما تتهمونني به على ضعفي وقوتكم، لأن السحر أمور شعوذة وتخييل، لا تلبث أن تفتضح وتزول، يدل على هذا جوابهم له.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمعنى: هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحراً لما شنع حال الساحرين، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها...
وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السلام: {أتقولون للحق لما جاءكم}: يفيد ضرورة النظر إلى الحق مجردا عمن جاء به. ولذلك لم يقل موسى عليه السلام: أتقولون للحق لما جئناكم به: إنه سحر مبين؟ إن القول الحكيم الوارد في الآية الكريمة هو تأكيد على ضرورة النظر إلى الحق مجردا عمن جاء به...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذاً وتأثيراً، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على إدراكات الناس ونفسياتهم، إلاّ أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماماً عن المعجزة التي هي حق، إِذا لا يمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة، فإِنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إِصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.
إِنّ السحرة، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الانحراف والإِغفال، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح، يستغفلون الناس ويخادعونهم، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق، حريصون على هداية الناس، مطهرون، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأُمور المادية.
إِن السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقاً، ولا يعملون إلاّ من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإِصلاح المجتمع الإِنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.