فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ مُوسَىٰٓ أَتَقُولُونَ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمۡۖ أَسِحۡرٌ هَٰذَا وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّـٰحِرُونَ} (77)

فردّ عليهم موسى قائلاً : { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْر هذا } قيل : في الكلام حذف ، والتقدير : أتقولون للحقّ سحر فلا تقولوا ذلك ، ثم استأنف إنكاراً آخر من جهة نفسه فقال : { أَسِحْر هذا } فحذف قولهم الأوّل اكتفاء بالثاني ، والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله : { أَسِحْر هذا } بل هم قاطعون بأنه سحر ؛ لأنهم قالوا : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِين } فحينئذ لا يكون قوله : { أَسِحْرٌ هذا } من قولهم ، وقال الأخفش : هو من قولهم ، وفيه نظر لما قدّمنا ، وقيل معنى : { أَتَقُولُونَ } : أتعيبون الحقّ وتطعنون فيه ، وكان عليكم أن تذعنوا له ، ثم قال أسحر هذا ، منكراً لما قالوه . وقيل : إن مفعول { أَتَقُولُونَ } محذوف ، وهو ما دلّ عليه قولهم : { إِنَّ هذا لسحر } والتقدير : أتقولون ما تقولون ، يعني : قولهم " إن هذا لسحر مبين " ثم قيل : " أسحر هذا " ، وعلى هذا التقدير والتقدير الأوّل فتكون جملة { أَسِحْر هذا } مستأنفة من جهة موسى عليه السلام ، والاستفهام : للتقريع والتوبيخ ، بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا قال لهم موسى لما قالوا { إن هذا لسحر مبين } ؟ فقيل : قال : { أتقولون للحق لما جاءكم } ، على طريقة الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : أتقولون للحق لما جاءكم إنّ هذا لسحر مبين ، وهو أبعد شيء من السحر . ثم أنكر عليهم ، وقرّعهم ، ووبخهم ، فقال : { أَسِحْر هذا } فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار ، وتوبيخ بعد توبيخ ، وتجهيل بعد تجهيل ، وجملة : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } في محل نصب على الحال : أي أتقولون للحق إنه سحر ، والحال : أنه لا يفلح الساحرون ، فلا يظفرون بمطلوب ، ولا يفوزون بخير ، ولا ينجون من مكروه ، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله ، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة ؟

/خ87