84- أكد الله وحدة الألوهية والرسالة ، فأمر نبيه ومن معه بأن يقولوا صدَّقْنا بالله المعبود وحده ، ومرسل رسله ، وآمنا بما أنزل الله علينا من القرآن والشريعة ، وما نزَّله من كتب وشرائع على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده الأسباط الإثني عشر ، وما أنزل الله على موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل ، وما أنزل على سائر النبيين لا فرق في الإيمان بين أحد منهم . ونحن بذلك قد أسلمنا وجهنا لله .
ولما كانت الأمة المسلمة - المسلمة حقا لا جغرافية ولا تاريخا ! - هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله . وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه ، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه ، فإن الله يأمر نبيه [ ص ] أن يعلن هذه الحقيقة كلها ؛ ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات ، واحترامها لجميع الرسل ، ومعرفتها بطبيعة دين الله ، الذي لا يقبل الله من الناس سواه :
( قل : آمنا بالله ، وما أنزل علينا ، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل ، وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، والنبيون من ربهم . لا نفرق بين أحد منهم . ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلامدينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله ، وفي ولائه لكافة الرسل حملته . وفي توحيده لدين الله كله ، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد ، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده .
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين - وهو القرآن - وما أنزل على سائر الرسل من قبل ، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله :
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه . بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس . كما يتجلى في الآية قبلها( أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) . . فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر ، واتباع النظام ، وطاعة الناموس . . ومن ثم تتجلى عناية الله - سبحانه - ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة . كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان ، أو تصديق يستقر في القلب ، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله ، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة .
ثم قال تعالى : { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } يعني : القرآن { وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : من الصحف والوحي : { وَالأسْبَاطِ } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - هو يعقوب - الاثني عشر . { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } يعني : بذلك التوراة والإنجيل { وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } وهذا يَعُم جميعَ الأنبياء جملة { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } يعني : بل نؤمن بجميعهم { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل ، لا يكفرون بشيء من ذلك بل هم مُصَدِّقون{[5277]} بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي بعثه الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أفغير دين الله تبغون يا معشر اليهود، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها، وإليه ترجعون، فإن ابتغوا غير دين الله يا محمد، فقل لهم: آمنا بالله. فترك ذكر قوله: «فإن قالوا نعم»، وذكر قوله: «فإن ابتغوا غير دين الله»، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
{قُلْ آمَنّا بِاللّهِ}: قل لهم يا محمد: صدّقنا بالله أنه ربنا وإلَهنا، لا إلَه غيره، ولا نعبد أحدا سواه. {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وقل: وصدّقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله، فأقررنا به¹ {وَمَا أُنْزِلَ على إِبْرَاهِيمَ}: وصدقنا أيضا بما أنزل على إبراهيم خليل الله {و} على ابنيه {إِسْماعيل وَإِسْحاقَ} وابن ابنه {يَعْقُوبَ}، وبما أنزل على الأسباط، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر. {وَما أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى}: وصدقنا أيضا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوحي، وبما أنزل على النبيين من عنده. والذي آتى الله موسى وعيسى، مما أمر الله عزّ وجلّ محمدا بتصديقهما فيه والإيمان به التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي أتاه عيسى. {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ}: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضهم، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله، وصدّقت بعضا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدّقهم. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: ونحن ندين لله بالإسلام، لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره... ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودية، مقرّون له بالألوهة والربوبية، وأنه لا إلَه غيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم} الآية: هذا، والله أعلم، وذلك أن اليهود والنصارى لما آمنوا ببعض الرسل، وكفروا ببعض قالوا: {نؤمن ببعض ونكفر ببعض} [النساء: 150] أمر الله تعالى المؤمنين أن يؤمنوا بالرسل جميعا، وقالوا: {لا نفرق بين أحد ونحن له مسلمون}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان، فلذلك وحد الضمير في {قُلْ} وجمع في {ءَامَنَّا}.
فإن قلت: لم عدّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت: لوجود المعنيين جميعاً، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قل يا محمد أنت وأمتك: {آمنا بالله وما أنزل علينا} وهو القرآن وأمر محمد صلى الله عليه وسلم. والإنزال على نبي الأمة إنزال عليها، وقدم إسماعيل لسنه...
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم، بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلم كونه مصدقا لما معهم فقال: {قل ءامنا بالله} إلى آخر الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: وحد الضمير في {قل} وجمع في {آمنا} وفيه وجوه: والثاني: أنه خاطبه أولا بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو، ثم قال: {آمنا} تنبيها على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه. الثالث: إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله {قل} ليظهر به كونه مصدقا لما معهم، ثم قال {آمنا} تنبيها على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال: {والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285].
المسألة الثانية: قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم، ويختلفون في نبوتهم، {والأسباط} هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الإثني عشر في سورة الأعراف، وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد: إحداها: إثبات كونه عليه السلام مصدقا لجميع الأنبياء، لأن هذا الشرط كان معتبرا في أخذ الميثاق. وثانيها: التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبيا، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضا، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوة الكل. وثالثها: إنه قال قبل هذه الآية: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض} [آل عمران: 83] وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله، فههنا أظهر الإيمان بنبوة جميع الأنبياء، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف. ورابعها: أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيين، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل، وههنا أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده البتة.
المسألة الرابعة: قوله {لا نفرق بين أحد منهم} فيه وجوه: الأول: قال الأصم: التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله، والمراد من هذا الوجه يعني: نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله. الثاني: قال بعضهم المراد {لا نفرق بين أحد منهم} بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى. الثالث: قال أبو مسلم {لا نفرق بين أحد منهم} أي لا نفرق ما أجمعوا عليه، وهو كقوله {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103] وذم قوما وصفهم بالتفرق فقال: {لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} [الأنعام: 94].
أما قوله {ونحن له مسلمون} ففيه وجوه: الأول: إن إقرارنا بنبوة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض}. والثاني: قال أبو مسلم {ونحن له مسلمون} أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة، وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم، والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] الثالث: أن قوله {ونحن له مسلمون} يفيد الحصر، والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال، والله اعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الدعاء إلى شيء غير الله، ثم هدد من تولى، فكان السامع جديراً بأن يقول: أنا مقبل غير متول فما أقول وما أفعل؟ قال مخاطباً لرأس السامعين ليكون أجدر لامتثالهم: {قل} أي قبل كل شيء، أي ملفتاً لمن نفعه هذا التذكير والتهديد فأقبل {آمنا} أنا ومن أطاعني من أمتي -مبكتاً لأهل الكتاب بما تركوه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده من خلص أبنائه، وأبوه وجادلوا فيه عدواناً وادعوه؛ ثم فصل المأمور بالإيمان به فقال: {بالله} الذي لا كفوء له.
ولما كان الإنزال على الشيء مقصوداً به ذلك الشيء بالقصد الأول كان الأنسب أن يقال: {وما أنزل علينا} فيكون ذلك له حقيقة ولأتباعه مجازاً، وكانت هذه السورة بذلك أحق لأنها سورة التوحيد {وما أنزل على إبراهيم} أي أبينا {وإسماعيل وإسحاق} أي ابنيه
{ويعقوب} ابن إسحاق {والأسباط} أي أولاد يعقوب.
ولما كان ما ناله صاحبا شريعة بني إسرائيل من الكتابين المنزلين عليهما والمعجزات الممنوحين بها أعظم مما كان لمن قبلهما غير السياق إلى قوله: {وما أوتي موسى} من أولاد الأسباط من التوراة والشريعة {وعيسى} من ذرية داود من الإنجيل والشريعة الناسخة لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان النظر هنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر لكونها سورة التوحيد الذي هو أخلق به وأغرق فيه ناسب الإعراء عن التأكيد بما في البقرة، ونظر إلى الكل لمحاً واحداً فقال: {والنبيون} أي كافة من الوحي والمعجزات ليكون الإيمان بالمنزل مذكوراً مرتين لشرفه {من ربهم} أي المحسن إليهم خاصة وإلى العباد عامة بإرسالهم إليهم؛ ثم استأنف تفسير هذا الإيمان بقوله: {لا نفرق بين أحد منهم} تنبيهاً على الموضع الذي كفر به اليهود والنصارى {ونحن له} أي لله وما أنزل من عنده.
{مسلمون} أي: منقادون على طريق الإخلاص والرضى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لا نفرق بين أحد منهم} كما يفرق أهل الكتاب. فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا نفرق بينهم في الدين، فنقول بعضهم على حق وبعضهم على باطل، بل نقول إنهم كانوا جميعا على الحق لا خلاف بينهم في الأصول والمقاصد، فمثلهم كمثل الولاة الصادقين يرسلهم الملك العادل متعاقبين لعمارة الولاية وإصلاح أهلها، وما يكون من التغيير في بعض قوانينهم إنما يكون بحسب حال الولاية وأهلها، والمقصد واحد وهو العمران والإصلاح {ونحن له مسلمون} منقادون بالرضا والإخلاص منصرفون عن أهوائنا وشهواتنا في الدين لا نتخذه جنسية لأجل حظوظ الدنيا وإنما نبتغي به التقرب إليه تعالى بإصلاح النفوس وإخلاص القلوب والعروج بالأرواح، إلى سماء الكرامة والفلاح؛ افتتح الآية بذكر الإيمان وختمها بالإسلام الذي هو في كماله ثمرته وغايته وهذا هو الإسلام الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء. ولذلك قفى عليه بقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لما كانت الأمة المسلمة -المسلمة حقا لا جغرافية ولا تاريخا!- هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله. وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه، فإن الله يأمر نبيه [ص] أن يعلن هذه الحقيقة كلها؛ ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات، واحترامها لجميع الرسل، ومعرفتها بطبيعة دين الله، الذي لا يقبل الله من الناس سواه: (قل: آمنا بالله، وما أنزل علينا، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، والنبيون من ربهم. لا نفرق بين أحد منهم. ونحن له مسلمون. ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين)..
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله، وفي ولائه لكافة الرسل حملته. وفي توحيده لدين الله كله، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده.
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين -وهو القرآن- وما أنزل على سائر الرسل من قبل، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله: (ونحن له مسلمون)..
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه. بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس. كما يتجلى في الآية قبلها (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون).. فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر، واتباع النظام، وطاعة الناموس.. ومن ثم تتجلى عناية الله -سبحانه- ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة. كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان، أو تصديق يستقر في القلب، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا قد يسأل سائل ما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون،أهو شيء آخر غير ما أنزل عليهم: ونجيب عن ذلك السؤال بأن ما ذكر بأنه أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق،هو الجزء الذي لا تختلف فيه الديانات السماوية قط،وهو لبها وخلاصتها،وأساسه التوحيد المطلق،والإيمان بفضائل الأخلاق، وغيرها مما لا يقبل النسخ والتغيير،وأما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون من ربهم فهو ما اختص به كل نبي من أحكام توافق زمنهم،... ويصح أن نقول جوابا آخر وهو أن ما أوتيه موسى وعيسى والنبيون هو معجزاتهم التي أقاموا بها الدليل على رسالة ربهم،ويصح أن يكون الجواب شاملا للأمرين معا...
" قل "هو خطاب لمفرد هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمقول: {آمَنَّا} دليل على انسجام الرسول مع الأمة المؤمنة به، فكأن الأمة الإسلامية قد انصهرت في "قل"، وكأن الرسول موجود في {آمَنَّا}، وبذلك يتحقق الامتزاج والانسجام بين الرسول وبين المؤمنين به، ويصير خطاب الحق إليهم هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة لا انفصام فيها...
وقد جاء الحق بهذا الأسلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته، بل جاء ليحمل أعْباءَ هذه الأمة، ولذلك قلنا من قبل: إن للرسول صلى الله عليه وسلم إيمانين، لقد آمن بالله، وأمن للمؤمنين، وهو صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، لأنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها، لقد أتم البلاغ وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها، ولذلك يقول الحق: {قُلْ آمَنَّا}، كان القياس أن يقول: "قل آمنت"، أو أن يقول: {قُولُواْ آمَنَّا}. لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها، فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها، ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته، وقد قال الحق هنا: {قُلْ آمَنَّا} ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته، وأمة الإسلام في طواعية لرسولها، والأمر يأتي لرسول الله من الحق سبحانه، والتنفيذ لهذا الأمر يكون من الجميع، وفي هذا إشعار للخصوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون ذا عصبية إيمانية قوية، فلو قال:"قل آمنت "لكان معنى ذلك أن الرسول لن يملك إلا إيمانه فقط، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به قومه، وكثير غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر: 1-2]. وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة في مسألة الإنزال، فمرة يقول الحق:... فالنزول يقتضي" علِّية"، وهو من حيث العلو يأتي ب "على"، ومن حيث الغاية يأتي ب" إلى"، فهو منهج نزل من الحق الأعلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه إلى المؤمنين لمصلحتهم. ولذلك قلنا: إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فلا يصح أن نفهم أن الله قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته، إنما جاء مثل هذا القيد لقيد الملايين من أجل حرية الفرد، مثال ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على الإنسان، فهو أمر لكل إنسان من الملايين وهو لمصلحة كل إنسان، فالقرآن قد نزل لمصلحتك، ومصلحة المؤمنين جميعا. وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}...