اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (84)

وفي هذه الآية احتمالان :

أحدهما : أن يكون المأمور بهذا القول - وهو " آمَنَّا " إلى آخره - هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم في ذلك معنيان :

أحدهما : أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك ، وإنما حُذِفَ معطوفُه ؛ لِفَهْم المعنى ، والتقدير : قل يا محمد أنت وأمتك : آمنا بالله ، كذا قدَّره ابنُ عطية .

والثاني : أن المأمور بذلك نبينا وحده ، وإنما خوطب بلفظ الجمع ؛ تعظيماً له .

قال الزمخشري : " ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك ؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه " .

والاحتمال الثاني : أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم ، والتقدير : قل لهم : قولوا : آمنا ، ف " آمَنَّا " منصوب ب " قُلْ " على الاحتمال الأول ، وب " قُولُوا " المقدَّر على الاحتمال الثاني ، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل .

وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة ، إلا أنَّ هنا عَدَّى " أُنْزِلَ " ب " عَلَى " وهناك عدَّاه ب " إلى " .

قال الزمخشري : لوجود المعنيين جميعاً ؛ لأن الوحي ينزل من فوق ، وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر .

قال ابن عطيةَ : " الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها " وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق .

قال الراغب : " إنما قال - هنا - " عَلَى " ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ ، كان لفظ " عَلَى " المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به ، وهناك لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظ " إلَى " المختص بالاتصال أوْلَى .

ويجوز أن يقال : " أنزل عليه " ، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه . وأنزل إليه ، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه ، وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] وقال : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] خص هنا ب " إلى " لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب " .

وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ ، فقال : " ومن قال : إنما قيل : " عَلَيْنَا " لقوله : " قُلْ " و " إلينا " لقوله : " قُولُوا " ، تفرقة بين الرسول والمؤمنين ؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسَّف ؛ ألا ترى إلى قوله : { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [ البقرة : 4 ] وقوله : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ } [ المائدة : 48 ] وقوله : { آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ } [ آل عمران : 72 ] وفي البقرة : { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ } [ البقرة : 136 ] وهنا : " وَالنَّبِيُّونَ " ، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، بخلاف الخطاب هنا ، لأنه خاص ، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب " .

قال ابن الخطيب : قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمان بالأنبياء ؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزِل عليه ؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها ، فلا سبيلَ إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أُنْزِل على محمَّد صلى الله عليه وسلم فكأن ما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم كالأصل لما أُنْزِل على سائر الأنبياء ، فلذا قدَّمه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء ، وهم الأنبياء الذين يَعْتَرِفُ أهلُ الكتاب بوجودِهم ، ويختلفون في نبوتِهِمْ ، والأسباط : هم أسباط يعقوبَ الذين ذكر الله - تعالى - أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف .

فصل

قوله : { وَالنَّبِيُّونَ } بعد قوله : { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } من باب عطف العامِّ على الخاص .

اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدِّمين الذين نُسِخَتْ شرائعُهم . وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً ، فهل تصير نُبُوَّتُه منسوخةً ؟ فمن قال : إنها تصير منسوخة قال : نُؤْمن بأنهم كانوا أنبياءَ وَرُسُلاً ، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال . ومَنْ قال : إن نسخَ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة ، قال : نؤمن بأنهم أنبياء ورسُل في الحال ، فتنبَّه لهذا الموضع .

فصل

قال ابن الخطيب : اختلفوا في معنى قوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } فقال الأصمُّ : الفرقان قد يكون بتفضيل البعضِ على البعضِ ، وقد يكون بالقول بأنهم كانوا على سبيل واحدٍ في الطاعة الله - تعالى - وفي الانقياد لتكاليف الله - وهذا هو المراد .

وقال بعضهم : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } بأن نؤمن ببعضٍ دون بعضٍ - كما فرَّقت اليهود والنصارَى .

وقال أبو مسلم : لا نفرق ما جمعوا ، وهو كقوله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] وذَمَّ قوماً ووصفهم بالتفرُّق ، فقال : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .

قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فيه وجوهٌ :

الأول : أن إقرارنا بنبوَّة هؤلاء الأنْبِياء إنما كان لأننا منقادون لله - تعالى - مستسلمون لحُكْمِه ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ آل عمران : 83 ] .

قال أبو مسلم : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مستسلمون لأمْره بالرضا ، وترك المخالفة ، وتلك صفة المؤمنين بالله ، وهم أهل السلم ، والكافرون أهل الحربِ ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] .

قال ابن الخطيب : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } يُفيد الحَصْر ، والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخرَ من سمعة ، ورياء ، وطلب مالٍ ، وهذا تنبيه على أن حالَهم بالضِّدِّ من ذلك .