مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (84)

قوله تعالى { قل آمنا بالله و ما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلم كونه مصدقا لما معهم فقال : { قل ءامنا بالله } إلى آخر الآية وههنا مسائل :

المسألة الأولى : وحد الضمير في { قل } وجمع في { آمنا } وفيه وجوه الأول : إنه تعالى حين خاطبه ، إنما خاطبه بلفظ الوحدان ، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم والتفخيم ، مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني : أنه خاطبه أولا بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ، ثم قال : { آمنا } تنبيها على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث : إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله { قل } ليظهر به كونه مصدقا لما معهم ثم قال { آمنا } تنبيها على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال : { والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] .

المسألة الثانية : قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء ، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه ، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ، ويختلفون في نبوتهم { والأسباط } هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثني عشر في سورة الأعراف ، وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها : إثبات كونه عليه السلام مصدقا لجميع الأنبياء ، لأن هذا الشرط كان معتبرا في أخذ الميثاق وثانيها : التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة ، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه ، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبيا ، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضا ، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوة الكل وثالثها : إنه قال قبل هذه الآية { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض } [ آل عمران : 83 ] وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله ، فههنا أظهر الإيمان بنبوة جميع الأنبياء ، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف ورابعها : أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيين ، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل ، وههنا أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده البتة ، فإن قيل : لم عدى { أنزل } في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء ؟ قلنا : لوجود المعنيين جميعا ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر ، وقيل أيضا إنما قيل { علينا } في حق الرسول ، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ، ألا ترى إلى قوله { بما أنزل إليك } [ البقرة : 4 ] وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } [ آل عمران : 72 ] .

المسألة الثانية : اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون ؟ وحقيقة الخلاف ، أن شرعه لما صار منسوخا ، فهل تصير نبوته منسوخة ؟ فمن قال إنها تصير منسوخة قال : نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلا ، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل ، ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة قال : نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع .

المسألة الرابعة : قوله { لا نفرق بين أحد منهم } فيه وجوه الأول : قال الأصم : التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض ، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد من هذا الوجه يعني : نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني : قال بعضهم المراد { لا نفرق بين أحد منهم } بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث : قال أبو مسلم { لا نفرق بين أحد منهم } أي لا نفرق ما أجمعوا عليه ، وهو كقوله { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } [ آل عمران : 103 ] وذم قوما وصفهم بالتفرق فقال : { لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [ الأنعام : 94 ] .

أما قوله { ونحن له مسلمون } ففيه وجوه الأول : إن إقرارنا بنبوة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض } والثاني : قال أبو مسلم { ونحن له مسلمون } أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] الثالث : أن قوله { ونحن له مسلمون } يفيد الحصر والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال ، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال ، والله اعلم .