لا تخف ( وألق ما في يمينك )بهذا التنكير للتضخيم ( تلقف ما صنعوا ) . فهو سحر من تدبير ساحر وعمله . والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار ، لأنه يتبع تخييلا ويصنع تخييلا ؛ ولا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية . شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق المعتمد على الصدق . وقد يبدو باطله ضخما فخما ، مخيفا لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول ولا تتظاهر ؛ ولكنها تدمغ الباطل في النهاية ، فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه ، فإذا هو يتوارى .
وألقى موسى . . ووقعت المفاجأة الكبرى . والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس على الفوز فيها ، والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم بعضا ويدفع بعضهم بعضا . والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلى حد أن يوجس في نفسه خيفة موسى .
ويخيل إليه - وهو الرسول - أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى ! يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم ، لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه ؛ ولا يكفي النطق للإفضاء به .
فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } يعني : عصاه ، فإذا هي { تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } وذلك أنها صارت تِنِّينًا{[19420]} عظيما هائلا ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق{[19421]} منها شيئًا إلا تلقفته وابتلعته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانًا جَهْرة ، نهارًا ضحوة . فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وبطل ما كانوا يعملون{[19422]} ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن موسى الشيباني{[19423]} حدثنا حماد بن خالد ، حدثنا ابن معاذ - أحسبه الصائغ - عن الحسن ، عن جُنْدَب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أخذتم - يعني الساحر - فاقتلوه " ثم قرأ : { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } قال : " لا يؤمن به حيث وجد " .
وقد روى أصله الترمذي موقوفًا ومرفوعًا . {[19424]}
" وألْقِ ما فِي يَمينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا " يقول : وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروها حتى خيل إليك أنها تسعى .
وقوله : " إنّمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحِر " ٍ اختلفت القرّاء في قراءة قوله ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة " إنّمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ " برفع كيد وبالألف في ساحر بمعنى : إن الذي صنعه هؤلاء السحرة كيد من ساحر . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «إنّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سِحْرٍ » برفع الكيد وبغير الألف في السحر بمعنى إن الذي صنعوه كيد سحر .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الكيد هو المكر والخدعة ، فالساحر مكره وخدعته من سحر يسحر ، ومكر السحر وخدعته : تخيله إلى المسحور ، على خلاف ما هو به في حقيقته ، فالساحر كائد بالسحر ، والسحر كائد بالتخييل ، فإلى أيهما أضفت الكيد فهو صواب . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ : «كَيْدَ سِحْرٍ » بنصب كميد . ومن قرأ ذلك كذلك ، جعل إنما حرفا واحدا وأعمل صنعوا في كيد .
قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها .
وقوله : " وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أتَى " يقول : ولا يظفر الساحر بسحره بما طلب أين كان . وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقول : معنى ذلك : أن الساحر يُقتل حيث وُجد . وذكر بعض نحويي البصرة ، أن ذلك في حرف ابن مسعود : «وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ أيْنَ أَتَى » وقال : العرب تقول : جئتك من حيث لا تعلم ، ومن أين لا تعلم . وقال غيره من أهل العربية الأول : جزاء يقتل الساحر حيث أتى وأين أتى وقال : وما قول العرب : جئتك من حيث لا تعلم ، ومن أين لا تعلم ، فإنما هو جواب لم يفهم ، فاستفهم كما قالوا : أي الماء والعشب .
عبّر عن العصا ب { مَا } الموصولة تذكيراً له بيوم التكليم إذ قال له : { وما تلك بيمينك يا موسى } [ طه : 17 ] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ ، ولذلك لم يقل له : وألق عصاك .
والتلقّف : الابتلاع . وقرأه الجمهور بجزم { تلقّفْ في جواب قوله وَأَلْقِ } . وقرأه ابن ذكوان برفع { تلقّف على الاستئناف .
وقرأ الجمهور تلَقّف بفتح اللام وتشديد القاف .
وقرأه حفص بسكون اللاّم وفتح القاف من لقِف كفرِح .
وجملة { إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحر } مستأنفة ابتدائية ، وهي مرَكبّة من ( إنّ ) و ( مَا ) الموصولة . و { كيد ساحر } خبر ( إنّ ) . والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه . وكتب ( إنما ) في المصحف موصولة ( إنّ ) ب ( ما ) الموصولة كما توصل ب ( ما ) الكافّة في نحو { إنما حرّم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] ولم يكن المتقدمون يتوخّون الفروق في رسم الخط .
وقرأ الجمهور { كيد ساحر بألف بعد السين . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف كيد سِحر بكسر السين .
وجملة { ولاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى } من تمام الجملة التي قبلها ، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير { إنَّمَا صَنَعُوا } ، أي لا يَنجحُ الساحر حيث كان ، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثّر بها . وتعريف { الساحر } تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف ، أي لا يفلح بها كلّ ساحر .
واختير فعل { أتى } دون نحو : حيث كانَ ، أو حَيث حلّ ، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر ، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة .
وتعميم { حَيْثُ أتى } لعموم الأمكنة التي يحضرها ، أي بسحره .
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها . وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، لأنّ عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.