ثم قال : { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي : كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس ، كما قال : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقال : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] ، وقال : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 44 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرّحْمََنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وما يجيء هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك ويجحدون ما أتيتهم به يا محمد من عند ربك من تذكير وتنبيه على مواضع حجج الله عليهم على صدقك ، وحقيقة ما تدعوهم إليه مما يحدثه الله إليك ويوحيه إليك ، لتذكرهم به ، إلا أعرضوا عن استماعه ، وتركوا إعمال الفكر فيه وتدبره
ثم عنف الكفار ونبه على سوء فعلهم بقوله : { وما يأتيهم } الآية ، وقوله { ومحدث } يريد محدث الإتيان ، أي مجيء القرآن للبشر كان شيئاً بعد شيء . وقالت فرقة يحتمل أن يريد ب «الذكر » محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في آية أخرى : { قد أنزل الله إليكم ذكراً }{[8908]} [ الطلاق : 10 ] . فيكون وصفه بالمحدث متمكناً .
عطف على جملة : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] أي هذه شنشنتهم فلا تأسف لعدم إيمانهم بآيات الكتاب المبين ، وما يجيئهم منها من بعدُ فسيعرضون عنه لأنهم عُرفوا بالإعراض .
والمضارعُ هنا لإفادة التجدد والاستمرار . فالذكر هو القرآن لأنه تذكير للناس بالأدلة . وقد تقدم وجه تسميته ذكراً عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } في سورة الحجر ( 6 ) .
والمحدَث : الجديد ، أي من ذكر بعدَ ذكر يُذكّرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله : { ما يأتيهم من ذكر } . فأفاد الأمران أنه ذكر متجدّد مستمر وأن بعضه يعقب بعضاً ويؤيده . وقد تقدم في سورة الأنبياء ( 2 ، 3 ) قوله : { ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلاّ استمعوه وهم يلْعَبون لاهية قلوبهم } .
وذكر اسم الرحمن هنا دون وصف الرّب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي على إعراض قومه فكان في وصف مُؤْتي الذكر بالرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يُعرضوا عمَّا هو رحمة لهم ، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تَذهبْ نفسُك حسراتٍ على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم ، كما قال المثل : لا يحزنك دم هراقه أهله وقال النابغة :
فإن تغلب شقاوتكم عليكم *** فإني في صلاحكم سعَيْتُ
وفي الإتيان بفعل { كانوا } وخبره دون أن يقال : إلا أعرضوا ، إفادةُ أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمرّ إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله : { أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] ، فانتفاء كون إيمانهم واقعاً هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم .
و { مِن } في قوله : { من ذكر } مؤكدة لعموم نفي الأحوال .
و { مِن } التي في قوله : { من الرحمن } ابتدائية .
والاستثناء من أحوال عامة ، فجملة : { كانوا عنه معرضين } في موضع الحال من ضمير { يأتيهم من ذكر } . وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث} يقول: ما يحدث الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن، {إلا كانوا عنه}، يعني: عن الإيمان بالقرآن {معرضين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما يجيء هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك ويجحدون ما أتيتهم به يا محمد من عند ربك من تذكير وتنبيه على مواضع حجج الله عليهم على صدقك، وحقيقة ما تدعوهم إليه مما يحدثه الله إليك ويوحيه إليك، لتذكرهم به، إلا أعرضوا عن استماعه، وتركوا إعمال الفكر فيه وتدبره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي ما نُجَدِّد لهم شَرْعا، وما نرسل لهم رسولاً... إلا أعرضوا عن تأمل برهانه، وقابلوه بالتكذيب. فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتِ الرسل لاتضح لهم صِدْقُهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيراً، إلاّ جددوا إعراضاً عنه وكفرا به...
من تمام قوله: {إن نشأ ننزل عليهم}، فنبه تعالى على أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء، رحيم بهم من حيث يأتيهم حالا بعد حال بالقرآن، وهو الذكر، ويكرره عليهم، وهم مع ذلك على حد واحد في الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ثم عند ذلك زجر وتوعد لأن المرء إذا استمر على كفره فليس ينفع فيه إلا الزجر الشديد، فلذلك قال: {فقد كذبوا}..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما} أي هذه صفتنا والحال أنه ما {يأتيهم} أي الكفار {من ذكر} أي شيء من الوعظ والتذكير والتشريع يذكروننا به، فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به؛ وأشار إلى دوام كبرهم بقوله: {إلا كانوا} أي كوناً هو كالخلق لهم؛ وأشار بتقديم الجار والمؤذن بالتخصيص إلى ما لهم من سعة الأفكار وقوة الهمم لكل ما يتوجهون إليه، وإلى أن لإعراضهم عنه من القوة ما يعد الإعراض معه عن غيره عدماً فقال: {عنه} أي خاصة {معرضين} أي إعراضاً هو صفة لهم لازمة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} يأمرهم وينهاهم، ويذكرهم ما ينفعهم ويضرهم. {إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} بقلوبهم وأبدانهم، هذا إعراضهم عن الذكر المحدث، الذي جرت العادة، أنه يكون موقعه أبلغ من غيره، فكيف بإعراضهم عن غيره، وهذا لأنهم لا خير فيهم، ولا تنجع فيهم المواعظ، ولهذا قال: {فَقَدْ كَذَّبُوا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين)..
ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحا كريها؛ وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمحدَث: الجديد، أي من ذكر بعدَ ذكر يُذكّرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله: {ما يأتيهم من ذكر}. فأفاد الأمران أنه ذكر متجدّد مستمر وأن بعضه يعقب بعضاً ويؤيده...
وذكر اسم الرحمن هنا دون وصف الرّب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي على إعراض قومه فكان في وصف مُؤْتي الذكر بالرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يُعرضوا عمَّا هو رحمة لهم، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تَذهبْ نفسُك حسراتٍ على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
إشارة إلى أن خصوم الرسالات الإلهية يتوارثون الكفر بالله وكتبه جيلا بعد جيل، ولا ينفكون عما طبعوا عليه من الجحود والعناد والتضليل، وكلما من الله على خلقه بإنزال كتاب إلهي جديد، لهدايتهم إلى دين الحق والتوحيد، أعرضوا عن هدايته، وتصدوا لمحاربته، وإن كان تنزيل آياته يتجدد على فترات، وتعلمه والعمل به في متناول جميع الفئات، فهم على باطلهم مصرون في كل حين، إلى يوم الدين..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين).
والتعبير ب «ذكر» هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنبّه، وهذا الأمر متحقّق في جميع آياته وسوره! إلاّ أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه، فهي تفرّ عن كل ذلك!...
والتعبير ب «الرحمن» إشارة إلى أن نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامّة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال!
كما أن هذا التعبير أيضاً ربّما كان لتحريك الإحساس بالشكر لله، فهذا الذكر من الله الذي عمّت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم، فكيف يمكن الإعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه لا يتعجل بإنزال العذاب عليكم، فذلك من رحمته أيضاً...
والتعبير ب «محدث» أي جديد إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الأُخرى، وكلُّ منها ذو محتوى جديد، ولكن ما جدوى ذلك، فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة معرضون... فكأنّهم اتّفقوا على خرافات السلف وتعلّقوا بها فهم لا يرضون أن يودّعوا ضلالهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساساً مهما كان الجديد موجباً للهداية، فإنّ الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ولا يذعنون له...
ونقرأ في سورة «المؤمنون» الآية 68 منه إذ تقول: (أفلم يدبّروا القول أم جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين) فبذريعة ما لم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين!