ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال ؛ وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل . . وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح ، ويلتقيان في سياق واحد ، كأنما يقعان اللحظة ، على طريقة القرآن :
( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) . .
والكتاب قد يكون المراد به الكتابة ؛ وقد يكون هو التوراة والإنجيل ، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان . والحكمة حالة في النفس يتأتي معها وضع الأمور في مواضعها ، وإدراك الصواب واتباعه . وهي خير كثير . والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل . فهي أساس الدين الذي جاء به . والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة ، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل . وهذا ما يخطىء الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة ، وهي قاعدة دين المسيح - عليه السلام - وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع ؛ ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل . أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص . هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء .
يقول تعالى - مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى ، عليه{[5050]} السلام - أن الله يعلمه { الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة . والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة{[5051]} .
{ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } فالتوراة : هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران . والإنجيل : الذي أنزله الله على عيسى عليهما {[5052]} السلام ، وقد كان [ عيسى ]{[5053]} عليه السلام ، يحفظ هذا وهذا .
{ وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة وبعض قراء الكوفيين : { وَيُعَلّمُهُ } بالياء ردّا على قوله : { كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيُعَلّمُهُ الكِتابَ } فألحقوا الخبر في قوله : { وَيُعَلّمُهُ } ، بنظير الخبر في قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشاءُ } ، وقوله : { فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض البصريين : «وَنُعَلّمُهُ » بالنون عطفا به على قوله : { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } كأنه قال : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، ونعلمه الكتاب . وقالوا : ما بعد «نوحيه » في صلته ، إلى قوله : «كن فيكون » ، ثم عطف بقوله : «ونعلمه عليه » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مختلفتان غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الصواب في ذلك لاتفاق معنى القراءتين في أنه خبر عن الله بأنه يعلم عيسى الكتاب ، وما ذكر أنه يعلمه ، وهذا ابتداء خبر من الله عزّ وجلّ لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة ، ورفعة المنزلة والفضيلة ، فقال : كذلك الله يخلق منك ولدا ، من غير فحل ولا بعل ، فيعلمه الكتاب ، وهو الخط الذي يخطه بيده ، والحكمة : وهي السنة التي نوحيها إليه في غير كتاب ، والتوراة : وهي التوراة التي أنزلت على موسى ، كانت فيهم من عهد موسى ، والإنجيل : إنجيل عيسى ، ولم يكن قبله ، ولكن الله أخبر مريم قبل خلق عيسى أنه موحيه إليه ، وإنما أخبرها بذلك ، فسماه لها ، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعث نبيا يوحى إليه كتابا اسمه الإنجيل ، فأخبرها الله عزّ وجلّ أن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي سمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلاً ، هو الولد الذي وهبه لها ، وبشرها به .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ » قال : بيده .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ والحِكْمَةَ » قال : الحكمة : السنة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر¹ عن أبيه ، عن قتادة ، في قوله : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ » قال : الحكمة : السنة ، { وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل } قال : كان عيسى يقرأ التوراة والإنجيل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ » قال : الحكمة : السنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : أخبرها يعني : أخبر الله مريم ما يريد به فقال : «وَنُعَلّمُهُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ » التي كانت فيهم من عهد موسى { وَالإِنْجِيلَ } كتابا آخر أحدثه إليه ، لم يكن عندهم علمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء قبله .
جملة { ويعلّمه } معطوفة على جملة { ويكلّم الناس في المهد } [ آل عمران : 46 ] بعد انتهاء الاعتراض .
وقرأ نافع ، وعاصم : ويُعلّمه بالتحتِية أي يعلّمه اللَّهُ . وقرأه الباقون بنُون العظمة ، على الالتفات .
والكتاب مراد به الكتاب المعهود . وعطفُ التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.