الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (48)

قوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُ } : قرأ نافع وعاصم : " ويُعَلِّمُه " بياء الغَيْبَة ، والباقون بنونِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه ، وعلى كلتا القراءتين ففي محلِّ هذه الجملة أوجهٌ :

أَحَدُها : أنها معطوفةٌ على " يُبَشِّرُكِ " أي : إن الله يبشرك بكلمةُ ويُعَلِّمُ ذلك المولودَ المعبَّرَ عنه بالكلمةِ .

الثاني : أنها معطوفةٌ على " يَخْلُق " أي : كذلك اللهُ يَخْلُق ما يشاء ويعلمه ، وإلى هذين الوجهين ذهب جماعةٌ منهم الزمخشري وأبو عليّ الفارسي . وهذا الوجهان ظاهران على قراءة الياء . وأمَّا قراءةُ النون فلا يظهرُ هذان الوجهان عليها إلا بتأويلِ الالتفاتِ من ضمير الغَيْبة إلى ضميرِ المتكلم إيذاناً بالفخامةِ والتعظيم . فأمَّا عطفُهُ على " يُبَشِّرُكِ " فقد استبعَدَه الشيخ جداً قال : " لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه " وأمَّا عطفُه على " يَخْلُق " فقال الشيخ : " وهو معطوفٌ عليه سواءً كانت يعني يخلق خبراً عن اللهِ تعالى أم تفسيراً لما قبلها ، إذا أَعْرَبْتَ لفظ " الله " مبتدأً ، وما قبلَه الخبرُ " يعني أنه قد تقدَّم في إعرابِ " كذلك اللهُ " في قصة زكريا أوجهٌ أحدُها : ما ذَكر ، ف " يُعَلِّمُه معطوفٌ على " يَخْلُق " بالاعتبارينِ المذكورينِ ، إذ لا مانعَ من ذلك . وعلى هذا الذي ذكرَه الشيخُ وغيرُه تكون الجملةُ الشرطيةُ معترضةً بين المعطوفِ والمعطوف عليه ، والجملةُ من " يُعَلِّمُهُ " في الوجهينِ المتقدِّمين مرفوعةُ المحلِّ لرفعِ محلِّ ما عَطَفَتْ عليه .

الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على " يُكَلِّمُ " فيكون منصوباً على الحالِ ، والتقديرُ : يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ مُكَلِّماً ومُعَلِّماً الكتابَ ، وهذا الوجهُ جَوَّزه ابنُ عطية وغيره .

الرابع : أن يكونَ معطوفاً على " وجيهاً " لأنه في تأويلِ اسمٍ منصوب على الحالِ ، كما تقدَّم تقريرُهُ في قوله : " ويكلِّم " . وهذا الوجهُ جَوزَّه الزمخشري واستبعدَ الشيخُ هذين الوجهين الأخيرين أعني الثالث والرابع قال : " لطولِ الفصلِ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه ، ومثلُه لا يُوجَدُ في لسانِ العرب " .

الخامس : أَنْ يَكُون معطوفاً على الجملةِ المحكية بالقولِ ، وهي : " كذلك الله يخلق " قال الشيخ : " وعلى كلتا القراءتين هي معطوفةٌ على الجملةِ المَقُولَةِ ، وذلك أنَّ الضميرَ في قوله : " قال كذلك " الله تعالى ، والجملةُ بعدَه هي المقولةُ ، وسواءً كانَ لفظُ " الله " مبتدأً خبرُهُ ما قبلَه أم مبتدأً وخبرُه " يَخلق " على ما مَرَّ إعرابُهُ في " قال : كذلك اللهُ يفعل ما يشاء " فيكونُ هذا من المقولِ لمريم على سبيلِ الاغتباطِ والتبشيرِ بهذا الولدِ الذي يُوجِدُهُ اللهُ منها .

السادس : أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له من الإِعراب ، قال الزمخشري بعد أَنْ ذَكَرَ فيه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على " نبشِّرك " أو " يَخْلُق " أو

" وجيهاً " : " أو هو كلامٌ مبتدأٌ " يعني مستأنفاً .

قال الشيخ : " فإنْ عنى أنه استنئافُ إخبار من الله أو عن الله على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوتُ الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداءَ كلام ، إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في " ويُعَلِّمه " فحينئذٍ يَصِحُّ أن يكونَ ابتداءَ كلام ، وإنْ عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر فكان ينبغي أن يبيِّن ما عُطِفَ عليه ، وأن يكونَ الذي عُطِفَ عليه ابتداءَ كلامٍ حتى يكونَ المعطوفُ كذلك " قلت : وهذا الاعتراضُ غيرُ لازمٍ لأنه لا يلزم مِنْ جَعْلِهِ كلاماً مستأنفاً أَنْ يُدَّعَى زيادةُ الواو ، ولا أنه لا بد من معطوف عليه ، لأنَّ النحْويين وأهلَ البيان نَصُّوا على أن الواو تكون للاستئناف ، بدليلِ أنَّ الشعراءَ يأتُونَ بها في أوائلِ أشعارهم من غير تقدُّم شيء يكون ما بعدَها معطوفاً عليه ، والأشعارُ مشحونةٌ بذلك ، ويُسَمُّونَها واوَ الاستئنافِ ، ومَنْ مَنَع ذلكَ قَدَّر أنَّ الشاعِرَ عَطَفَ كلامه على شيء مَنْوِيٍّ في نفسهِ ، ولكنَّ الأولَ أشهرُ القولين .

وقال الطبري : " قراءةُ الياءِ عَطْفٌ على قولِهِ " يَخْلُقُ ما يشاء " ، وقراءةُ النونِ عطفٌ على قولِهِ " نُوحِيهِ إِلَيكَ " . قال ابن عطية : " وهذا القولُ الذي قاله في الوجهين مُفْسِدٌ للمعنى " ولم يبيِّن أو محمد جهةَ إفسادِ المعنى : قال الشيخ : " أمَّا قراءةُ النونِ فظاهِرٌ فسادٌ عطفِهِ على " نُوحيه " من حيثُ اللفظُ ومن حيثُ المعنى : أمَّا من حيث اللفظُ فمثلُه لا يَقْعُ في لسانِ العرب لبُعْدِ الفصلِ المُفْرِطِ وتعقيدِ التركيبِ وتنافرِ الكلامِ ، وأمَّا من حيث المعنى فإنَّ المعطوفَ بالواوِ شريكُ المعطوف عليه فيصيرُ المعنى بقوله : { ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } أي : إخبارُك يا محمد بقصةِ امرأةِ عمران وودلاتِها لمريم وكفالتِها زكريا ، وقصتُه في ولادةِ يَحْيى له وتبشيرُ الملائكةِ لمريمَ بالاصطفاءِ والتطهيرِ ، كلُّ ذلك مِنْ أخبارِ الغيب نُعَلِّمه ، أي : نُعَلِّم عيسى الكتابَ ، فهذا كلامٌ لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله . وأمَّا قراءةُ الياءِ وعطفُ " ويعلِّمه " على " يَخْلُق " فليست مُفسِدَةً للمعنى ، بل هو أَوْلَى وأَصَحُّ ما يُحْمل عليه عَطْفُ " ويُعَلِّمه " لقرب لفظِهِ وصحةِ معناه ، وقد ذَكَرْنَا جوازَهُ قبلُ ، ويكونُ الله أَخْبَرَ مريمَ بأنه تعالى يَخْلُقُ الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادةُ بمثلِها مثلَ ما خلق لك ولداً من غير أبٍ ، وأنه تعالى يُعَلِّم هَذا الولدَ الذي يَخْلُقه ما لم يُعَلِّمه مَنْ قَبْلَه مِن الكتاب والحكمة والتوراة والإِنجيل ، فيكونُ في هذا الإِخبار أعظمُ تبشيرٍ لها بهذا الولدِ وإظهارٌ لبركته ، وأنه ليس مُشْبِهاً أولادَ الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالِفٌ لهم في أصلِ النشأةِ ، وفيما يُعَلِّمه تعالى من العلمِ ، وهذا يَظْهَرُ لي أنه أحسنُ ما يُحْمَلُ عَطْفُ " ويُعَلِّمه " . انتهى .

وقال أبو البقاء : " ويُقْرَأُ بالنونِ حَمْلاً على قولِهِ : { ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ } ، ويُقْرَأُ بالياءِ حَمْلاً على " يُبَشِّرك " وموضعُهُ حالٌ معطوفَةٌ على " وجيهاً " . قال الشيخ : " وقالَ بعضُهم : ونُعَلِّمُه بالنون حَمْلاً على " نُوحيه " . إنْ عنى بالحَمْلِ العطفَ فلا شيءَ أبعدُ من هذا التقديرِ ، وإنْ عنى بالحَمْل أنه من بابِ الالتفاتِ فهو صحيح " . قلت : يتعيَّن أَنْ يَعني بقولِهِ " حَمْلاً " الالتفاتَ ليس إلا ، ولا يجوز أنْ يَعْني به العطفَ لقوله : " وموضعُهُ حالٌ معطوفةٌ على وجيهاً " كيف يَسْتقيم أن يريدَ عطفَهُ على " نبشرك " أو " نوحيه " مع حُكْمِه عليه بأنه معطوفٌ على " وجيهاً " ؟ هذا ما لا يَسْتقيم أبداً .