اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (48)

قوله : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } قرأ نافع وعاصم ويعقوب { وَيُعَلِّمُهُ } - بياء الغيبة{[5440]} - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه ، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ :

أحدها : أنها معطوفة على " يُبَشِّرُكِ " أي : أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة .

الثاني : أنها معطوفة على " يَخْلُقُ " أي : كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه . وإلى هذين الوجهين ، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء ، وأما قراءة النون ، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم ، إيذاناً بالفخامة والتعظيم .

فأما عطفه على " يُبَشِّرُكِ " فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا ، قال : " لطول الفصل بين المعطوف ، والمعطوف عليه " ، وأما عطفه على " يَخْلُقُ " فقال : " هو معطوف عليه سواء كانت - يعني " يَخْلُقُ " خبراً عن الله أم تفسيراً لما قبلها ، إذا أعربت لفظ " اللهُ " مبتدأ ، وما قبله خبر " .

يعني أنه تقدم في إعراب { كَذَلِكَ اللَّهُ } في قصة زكريا أوجه :

أحدها ما ذكره - ف " يُعَلِّمُهُ " معطوف على " يخلُقُ " بالاعتبارين [ المذكورين ] {[5441]} ؛ إذْ لا مَانِعَ من ذلك ، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره ، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والجملة من " نُعَلِّمُهُ " - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل ، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه .

الثالث : أن يعطف على " يُكَلِّمُ " فيكون منصوباً على الحال ، والتقدير : يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب ، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره .

الرابع : أن يكون معطوفاً على " وَجِيهاً " ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال ، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ .

واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال : " الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثلُه في لسان العرب " .

الخامس : أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول : - وهي { كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .

قال أبو حيّان{[5442]} : " وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة ؛ وذلك أن الضمير في ( قال كذلك ) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ ( الله ) مبتدأ خبره ما قبله ، أم مبتدأ ، وخبره " يَخْلُقُ " - على ما مر إعرابه في { قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط ، والتبشير بهذا الولد ، الذي أوجده اللهُ منها " .

السادس : أن يكون مستأنفاً ، لا محلَّ له من الإعراب .

قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على " يُبَشِّرُكِ " أو يخلق أو " وَجِيهاً " - : " أو هو كلام مبتدأ " يعني مستأنفاً .

قال أبو حيّان{[5443]} : " فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه ، فحينئذٍ يَصِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام ، حتى يكون المعطوف كذلك " .

قال شهاب الدين{[5444]} : " وهذا الاعتراض غير لازم ؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو ، ولا أنه لا بد من معطوف عليه ؛ لأن النحويين ، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف ، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل أشعارهم ، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه ، والأشعار مشحونة بذلك ، ويُسمونها واوَ الاستئناف ، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه ، ولكن الأول أشهر القولين " .

وقال الطبريُّ : قراءة الياء عطف على قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } ، وقراءة النون ، عطف على قوله : { نُوحِيهِ إلَيْكَ } .

قال ابن عطيةَ : " وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى " . ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى .

قال أبو حيّان{[5445]} : " أما قراءةُ النون ، فظاهر فساد عطفه عفى " نُوحِيهِ " من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط ، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى ، فيصير المعنى بقوله : { ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } ، أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم ، وَكَفَالَةِ زكريا ، وقصته في ولادة يحيى ، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم [ معناه ] مع معنى ما قبله .

أما قراءة الياء وعطف " وَيُعَلِّمُهُ " على " يَخْلُقُ " فليست مُفْسِدَةً للمعنى ، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف " وَيُعَلِّمُهُ " لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا ، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ " اه .

قال أبو البقاء{[5446]} : " يُقْرَأ - نعلمه - بالنون ، حملاً على قوله : { ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ويقرأ بالياء ؛ حملاً على " يُبَشِّرُكِ " وموضعه حال معطوفة على " وَجِيهاً " .

قال أبو حيّان{[5447]} : وقال بعضهم : " وَنُعَلِّمُهُ " - بالنون - حملاً على " نُوحِيهِ " - إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح " .

قال شهاب الدين{[5448]} : " يتعين أن يعني بقوله : حَمْلاً ؛ الالتفات ليس إلا ، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله : وموضعه حال معطوفة على " وَجِيهاً " وكيف يستقيم أن يُرِيدَ عطفه على " يُبَشِّرُكِ " أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على " وَجِيهاً " ؟ هذا ما لا يستقيم أبداً " .

فصل في المراد ب " الكتاب "

المرادُ من " الكِتَاب " : تعليم الخط والكتابة ، ومن " الْحِكْمَة " تعليم العلوم ، وتهذيب الأخلاق : { وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } كتابان إلهيان ، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم ؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية ، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ .


[5440]:وقرأ بها عاصم، وأبو جعفر. ينظر: السبعة 206، والكشف 1/344، والحجة 3/43، وحجة القراءات 163، وإتحاف 1/408، والعنوان 79، وإعراب القراءات 1/113، وشرح الطيبة 4/157، وشرح شعلة 314.
[5441]:سقط في أ.
[5442]:ينظر: البحر المحيط 2/484.
[5443]:ينظر: البحر المحيط 2/485.
[5444]:ينظر: الدر المصون 2/99.
[5445]:ينظر: البحر المحيط 2/485.
[5446]:ينظر: الإملاء 1/135.
[5447]:ينظر: البحر المحيط 2/485.
[5448]:ينظر: الدر المصون 2/100.