ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء . ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضا . وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها ، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين :
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون . يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ؟ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم - قل : إن الهدى هدى الله - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم - قل : إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) .
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة . إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي . يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين . ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج ، والإلواء بها عن هذا الطريق :
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) . .
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد ، وكل دس ، وكل مراء ، وكل جدال ، وكل تلبيس .
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ، ضلال لا شك فيه . فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى . فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين . فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم :
( وما يضلون إلا أنفسهم . وما يشعرون ) . .
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل . والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين ، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين .
{ وَدّت طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَدّتْ } : تمنت { طائِفَةٌ } يعني جماعة { مِنْ أهْلِ الكِتابِ } وهم أهل التوراة من اليهود ، وأهل الإنجيل من النصارى { لَوْ يُضِلّونَكُمْ } يقول : لو يصدّونكم أيها المؤمنون عن الإسلام ، ويردّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر ، فيهلكونكم بذلك . والإضلال في هذا الموضع : الإهلاك من قول الله عزّ وجلّ : { وَقَالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : إذا هلكنا . ومنه قول الأخطل في هجاء جرير :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجٍ أكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأتِيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالا
يعني : هلك هلاكا ، وقول نابغة بني ذبيان :
فآبَ مُضِلّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيّةٍ *** وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزْمٌ وَنائِلُ
{ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ } : وما يهلكون بما يفعلونه من محاولتهم صدّكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم ، يعني بأنفسهم : أتباعهم وأشياعهم على ملتهم وأديانهم ، وإنما أهلكوا أنفسهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه ، واستحقاقهم به غضبه ولعنته ، لكفرهم بالله ، ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم في كتابهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، والإقرار بنبوّته . ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون ، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة ، والردى على جهل منهم ، بما الله بهم محلّ من عقوبته ، ومدّخر لهم من أليم عذابه ، فقال تعالى ذكره : { وَما يَشْعُرُونَ } أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون¹ ومعنى قوله : { وَما يَشْعُرُونَ } : وما يدرون ولا يعلمون ، وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغنى ذلك عن إعادته .
استئناف مناسبتُه قوله : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } إلى قوله { إن أولى الناس بإبراهيم } [ آل عمران : 64 68 ] إلخ . والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، ولذلك عُبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلاّ يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة مَعهم في الآيات السابقة .
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة ، والنضير ، وقَينُقاع ، دَعَوا عمَّار بن ياسر ، ومعاذَ بن جبل ، وحذيفةَ بن اليمان ، إلى الرجوع إلى الشرك .
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت ، على طريقة الإجمال والتفصيل . فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازاً لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي . وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل وَدّت تقديره : لو يضلونكم لحصل مودودهم ، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لَوْ الامتناعية في بعض المقامات . وليس هو معنى أصلياً من معاني لو . وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : { يَودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة } في سورة [ البقرة : 96 ] .
وقوله : { لو يضلونكم } أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب : أي يذبذبوهم ، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس الأمر ، وإن كان وُدُّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم . وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أن يكون معناه : إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضاً ضالين ؛ لأنّ الإضلال ضلال ، وأن يكون معناه : إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله : { وما يشعرون } يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.