( إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ) . .
ولا يفصل القرآن هذه الصيحة . وإن كانت في موضع آخر في سورة " فصلت " توصف بأنها صاعقة : ( فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) . . وقد تكون كلمة صاعقة وصفا للصيحة . فهي صيحة صاعقة . وقد تكون تعبيرا عن حقيقتها . فتكون الصيحة والصاعقة شيئا واحدا . وقد تكون الصيحة هي صوت الصاعقة . أو تكون الصاعقة أثرا من آثار الصيحة التي لا ندري من صاحبها .
وعلى أية حال فقد أرسلت على القوم صيحة واحدة ، ففعلت بهم ما فعلت ، مما جعلهم ( كهشيم المحتظر ) . . والمحتظر صانع الحظيرة . وهو يصنعها من أعواد جافة . فهم صاروا كالأعواد الجافة حين تيبس وتتحطم وتصبح هشيما . أو أن المحتظر يجمع لماشيته هشيما تأكله من الأعواد الجافة والعشب الناشف . وقد صار القوم كهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة !
وهو مشهد مفجع مفزع . يعرض ردا على التعالي والتكبر . فإذا المتعالون المتكبرون هشيم . وهشيم مهين . كهشيم المحتظر !
{ صيحة واحدة } من السماء صاح بهم جبريل عليه السلام في طرف منازلهم . { فكانوا كهشيم المحتظر } أي ما تهشم وتفتتا من الشجر اليابس عند ما يعمل المحتظر حظيرة لماشيته منه . والهيشم : يابس كل كلأ وكل شجر ؛ من الهشم وهو كسر الشيء اليابس أو الأجوف . والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، وهي الزريبة التي يصنعها العرب وأهل البادية للمواشي والسكنى من يابس الأغصان والأشجار ؛ من الحظر وهو المنع .
{ إنا أرسنا عليهم صيحة واحدة } : هي صيحة صباح السبت فهلكوا .
{ فكانوا كهشيم المحتظر } : أي صاروا بعد هلاكهم وتمزق أجسادهم كهشيم المحتظر وهو الرجل يجعل في ظهيرة غنمه العشب اليابس والعيدان الرقيقة يحظر بها لغنمه ويحفظها من البرد والذئاب .
وهذا بيانه قال تعالى { إنا أرسلنا عليهم صحية واحدة } هي صيحة جبريل عليه السلام فانخلعت لها قلوبهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين { كهشيم المحتظر } أي ممزقين محطمين مبعثرين هنا وهنا كحطب وخشب وعشب الحظائر التي تجعل للأغنام .
قوله تعالى : " إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة " يريد صيحة جبريل عليه السلام ، وقد مضى في " هود{[14493]} " . " فكانوا كهشيم المحتظر " وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية " المحتظر " بفتح الظاء أرادو الحظيرة . الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة . وفي الصحاح : والمحتظر الذي يعمل الحظيرة . وقرئ " كهشيم المحتظر " فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحه جعله المفعول به . ويقال للرجل القليل الخير : إنه لنَكِد الحظيرة . قال أبو عبيد : أراه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة . المهدوي : من فتح الظاء من " المحتظر " فهو مصدر ، والمعنى كهشيم الاحتظار . ويجوز أن يكون " المحتظر " هو الشجر المتخذ منه الحظيرة . قال ابن عباس : " المحتظر " هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك ، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم . قال :
أَثَرْنَ عَجَاجَةً كدخان نارٍ *** تشبّ بغرقد بالٍ هَشِيمِ
وعنه : كحشيش تأكله الغنم . وعنه أيضا : كالعظام النخرة المحترقة ، وهو قول قتادة . وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح . وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا ، وهو فعيل بمعنى مفعول وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما . والحظر المنع ، والمحتظر المفتعل يقال منه : احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله ، قال الشاعر :
ترى جِيَفَ المَطِيّ بجانبيه *** كأن عظامَها خَشَبُ الهَشِيمِ
وعن ابن عباس : أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم ، فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه ، والهشيم فتات السنبلة والتبن .