73- { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ }
أي : جعلنا نار الدنيا تذكرة ، تذكّر الناس بشدة الحرارة وشدة الحريق ، حيث يتذكروا نار الآخرة ، " ونار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار الآخرة " . ( رواه الشيخان ) .
وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ . يعني بالمقوين : المسافرين .
وعن مجاهد : للحاضر والمسافر ، لكل طعام لا يصلحه إلا النار ، وقيل : المستمتعين من الناس أجمعين .
وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي ، من غني وفقير ، الجميع محتاجون إلى النار للطبخ ولاصطلاء والإضاءة ، وغير ذلك من المنافع .
وفي الحديث : " المسلمون شركاء في ثلاثة : الماء ، والكلأ ، والنار " xv( أخرجه أحمد ، وأبو داود ) .
{ نحن جعلناها تذكرة } لنار جهنم الكبرى ؛ ليعتبر بها الناس ، ويحذروا ما أوعدوا به من عذاب الآخرة . { ومتاعا للمقوين } أي ومنفعة للمسافرين ؛ من أقوى الرجل : دخل في القواء – بالمد والقصر – وهو القفر الخالي من العمران . وإطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز ؛ وتخصيصهم بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين ، وخاصة في البوادي ليلا . أو منفعة
للمحتاجين ، ينتفعون بها في سفرهم وإقامتهم وسائر شئونهم ؛ كأنه تصور من حال الحاصل في القفر : الفقر ، فقيل : أقوى فلان ، أي افتقر . كقولهم : أترب وأرمل ؛ ثم أريد منه مطلق المحتاج إليها بعلاقة اللزوم .
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } للعباد بنعمة ربهم ، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين ، وجعلها سوطا يسوق به عباده إلى دار النعيم ، { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } أي : [ المنتفعين أو ] المسافرين وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره ، ولعل السبب في ذلك ، لأن الدنيا كلها دار سفر ، والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه ، فهذه النار ، جعلها الله متاعا للمسافرين في هذه الدار ، وتذكرة لهم بدار القرار ، فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته ، أمر بتسبيحه وتحميده{[970]} فقال :
قوله تعالى : { أم نحن المنشئون نحن جعلناها } خلقناها يعني نار الدنيا ، { تذكرة } للنار الكبرى إذا رآها الرائي ذكر جهنم ، قاله عكرمة ومجاهد ومقاتل . وقال عطاء : موعظة يتعظ بها المؤمن .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً " . { ومتاعاً } بلغة ومنفعة . { للمقوين } المسافرين ، والمقوي : النازل في الأرض والقي والقواء هو : القفر الخالية البعيدة من العمران ، يقال : قوت الدار إذا خلت من سكانها . والمعنى : ينتفع بها أهل البوادي والأسفار ، فإن منفعتهم بها أكثر من منفعة المقيم وذلك أنهم يوقدون بها ليلاً لتهرب منهم السباع ويهتدي بها الضلال وغير ذلك من المنافع ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد وعكرمة : { للمقوين }يعني : للمستمتعين بها من الناس أجمعين ، المسافرين والحاضرين ، يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد ، وينتفعون بها في الطبخ والخبز . قال الحسن : بلغة للمسافرين ، يتبلغون بها إلى أسفارهم ، يحملونها في الخرق والجواليق . وقال ابن زيد : للجائعين ، تقول العرب : أقويت منذ كذا وكذا ، أي : ما أكلت شيئاً . قال قطرب : المقوي من الأضداد ، يقال للفقير : مقو لخلوه من المال ، وللغني : مقو ، لقوته على ما يريد ، يقال : أقوى الرجل إذا قويت دوابه وكثر ماله وصار إلى حالة القوة . والمعنى أن فيها متاعاً للأغنياء والفقراء جميعاً لا غنى لأحد عنها .
{ نحن جعلناها تذكرة } أي : تذكر بنار جهنم .
{ ومتاعا للمقوين } المتاع ما يتمتع به ويحتمل المقوين أن يكون من الأرض القواء وهي الفيافي ومعنى المقوين الذين دخلوا في القواء ولذلك عبر ابن عباس عنه بالمسافرين ويحتمل أن يكون من قولهم أقوى المنزل إذا خلا فمعناه : الذين خلت بطونهم أو موائدهم من الطعام ولذلك عبر بعضهم عنه بالجائعين .
ولما كان الجواب قطعاً : أنت وحدك ، قال دالاًّ على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر : { نحن } أي خاصة { جعلناها } بما اقتضته عظمتنا ، وقدم من منافعها ما هو أولى بسياق البعث الذي هو مقامه فقال : { تذكرة } أي شيئاً تتذكرونه {[62213]}وتتذكرون{[62214]} به تذكراً عظيماً جليلاً عن{[62215]} كل ما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم {[62216]}وغير ذلك{[62217]} مما ننيره لأولي البصائر والفهوم من العلوم ، قال ابن برجان : فوزان قدح الزناد من الشجر ، والزناد وزان الصيحة بهم ووزان إنشائه الأجسام وزان إنشائه الشجرة النار ، ويتذكر بإنشائها في الشجر إنشاء الحياة في الأجسام وبإنشائها من غيبها أن النار الكبرى في غيب ما نشاهده ، وهذا من آثار كونها في الجو - انتهى . وعلق بها سبحانه كثيراً من أسباب المعاش التي لا غنى عنها ليكون مذكراً لهم بما أوقدوا به حاضراً دائماً فيكون أجدر باتعاظهم { ومتاعاً } أي إنشاءً وبقاءً وتعميراً ونفعاً وإيصالاً إلى غاية المراد من الاستضاءة والاصطلاء والإنضاج والتحليل والإذابة والتعقيد والتكليس ، وهروب السباع وغير ذلك ، والمراد أنها سبب لجميع ذلك { للمقوين } أي الجياع الذين أقوت بطونهم - أي خلت - من الفقر والإغناء من النازلين بالأرض{[62218]} القواء ، والقواء بالكسر والمد أي القفر الخالية المتباعدة الأطراف البعيدة من العمران ، وكل آدمي مهيأ للقواء فهو موصوف به وإن لم يكن حال الوصف كذلك ، وقال الرازي : أقوى من الأضداد : اغتنى وافتقر ، وقال أبو حيان{[62219]} : وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب ، والنار من أعظم الدلائل على البعث إذ فيها انتقال من شيء إلى شيء إحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه - انتهى .
قوله : { نحن جعلناها تذكرة } أي جعلنا هذه النار التي تورونها في الدنيا { تذكرة } أي تذكر الناس بالنار الكبرى وهي نار جهنم . فقد أنيط بنار الدنيا أكثر أسباب الحياة والمعاش ، فهي بذلك حاضرة للناس ينظرون إليها في كل حين فيتذكرون نار جهنم ليعتبروا ويتعظوا ، أو ليتذكر الناس عظيم قدرة الله وأنه لا يعز عليه إحياء الموتى وبعث الناس من قبورهم ليلاقوا الحساب يوم القيامة .
قوله : { ومتاعا للمقوين } من القواء والقي ، بكسر القاف ، يعني قفر الأرض . وأقوات الدار أي خلت من أهلها{[4449]} . أي وجعلناها منفعة للمسافرين الذين ينزلون القواء وهي الأرض القفر ، أو للذين خلت بطونهم من الطعام فجاعوا . وقيل : للمقوين يعني المستمتعين من الناس أجمعين سواء فيهم الحاضر أو المسافر ، فالجميع محتاجون للنار من أجل الطبخ والاصطلاء والاستضاءة والاستئناس وغير ذلك من وجوه المنافع .