وعندما يصل إلى هذه الحلقة من سلسلة الرسالات ، يتوجه بالخطاب إلى أمة الرسل ؛ وكأنما هم متجمعون في صعيد واحد ، في وقت واحد ، فهذه الفوارق الزمانية والمكانية لا اعتبار لها أمام وحدة الحقيقة التي تربط بينهم جميعا :
( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا . إني بما تعملون عليم . وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) . .
إنه نداء للرسل ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون : ( كلوا من الطيبات ) . . فالأكل من مقتضيات البشرية عامة ، أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى .
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض : ( واعملوا صالحا ) . . فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك . أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ؛ فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا ، وغاية موصولة بالملأ الأعلى .
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته . إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء . الذي أراده الله لها ، وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى . والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق : ( إني بما تعملون عليم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقلنا لعيسى : يا أيها الرسل كلوا من الحلال الذي طيّبه الله لكم دون الحرام ، وَاعْمَلُوا صَالِحا تقول في الكلام للرجل الواحد : أيها القوم كفوا عنّا أذاكم ، وكما قال : الّذِينَ قَالَ لهم النّاسُ ، وهو رجل واحد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عبيد بن إسحاق الضبيّ العطار ، عن حفص بن عمر الفزاريّ ، عن أبي إسحاق السبيعيّ ، عن عمرو بن شرحبيل : يا أيّها الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّباتِ وَاعْمَلُوا صَالحا قال : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .
وقوله : إنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يقول : إني بأعمالكم ذو علم ، لا يخفى عليّ منها شيء ، وأنا مجازيكم بجميعها ، وموفّيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا .
وقوله { يا أيها الرسل } ، يحتمل أن يكون معناه وقلنا يا أيها الرسل فتكون هذه بعض القصص التي ذكر وكيفما حول المعنى{[8496]} فلم يخاطبوا قط مجتمعين ، وإنما خوطب كل واحد في عصره ، وقالت فرقة : الخطاب بقوله { يا أيها الرسل } لمحمد عليه السلام ، ثم اختلفت فقال بعضها : أقامه مقام الرسل كما قال : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم{[8497]} ، وقيل غير هذا مما لا يثبت مع النظر ، والوجه في هذا أن يكون الخطاب لمحمد وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزاً أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها وهذا كما تقول لتاجر يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا فأنت تخاطبه بالمعنى ، وقد اقترن بذلك أَن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه ، وقال الطبري : الخطاب بقوله { يا أيها الرسل } لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه ، والمشهور عنه أَنه كان يأكل من بقل البرية ، ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقدير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، و { الطيبات } هنا الحلال ملذة وغير ذلك{[8498]} ، وفي قوله { إني بما تعلمون عليم } تنبيه ما على التحفظ وضرب من الوعيد بالمباحثة صلى الله على جميع رسله وأنبيائه وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم .
يتعيَّن تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول ، وهو استئناف ابتدائي ، أي قلنا : يا أيها الرسل كلوا . والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجهاً للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم . فالتقدير : قلنا لكل رسول مِمَّنْ مضَى ذكرُهم كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً إني بما تعمل عليم .
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات . ومنه : ركب القوم دوابَّهم .
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيَّة والروحانيَّة ، فالأكل من الطيبات نزاهة جسميَّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيَّة .
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون : 50 ] وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة { ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } [ المؤمنون : 33 ] ، وقال : { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] ، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيَّة . وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم .
والأمر في قوله : { كلوا } للإباحة ، وإن كان الأكل أمراً جبلِّياً للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل .
وتعليق { من الطيبات } بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات ، أي أن يكون المأكول طيّباً . ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات . والطيبات : ما ليس بحرام ولا مكروه .
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة ، وهذا كقوله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات } [ المائدة : 93 ] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها .
وقوله : { إني بما تعملون عليم } تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء ، فالخبر مستعمل في التحريض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.