ثم التهديد السافر بجند الله ، والمتآمرون في نهاية الحياة :
( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) !
وهو مشهد مفزع مهين . وهم يحتضرون . ولا حول لهم ولا قوة . وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض . وفي مستهل حياتهم الأخرى . هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار . في لحظة الوفاة ، لحظة الضيق والكرب والمخافة . الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى ! فيا لها من مأساة !
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين ، فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة ، وهم يضربون وجوههم وأدبارهم ، يقول : فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار : الأعجاز ، وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل .
الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } [ محمد : 25 ] الآية وما بينهما متصل بقوله : { الشيطانُ سوّل لهم } [ محمد : 25 ] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدإ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد . ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد : إذا كانوا فروا من القتال هلعاً وخوفاً فكيف إذا توفتهم الملائكة ، أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال . وهذا يقتضي شيئين : أولهما أنهم ميّتون لا محالة ، وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب .
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعُونا ما قتلوا قل فادْرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 168 ] وقولِه : { وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون } [ التوبة : 81 ] .
والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت .
والمقصود : وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت . ولما جعل هذا العذاب محققاً وقوعُه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاماً مستعملاً في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة ، وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلاّ من أمْر غير معهود ، والسياق يدل على الفظاعة .
و { إذا } متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام ، تقديره : كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة .
وكثر حذف متعلّق { كيف } في أمثال هذا مقدَّراً مؤخراً عن { كيف } وعن { إذا } كقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] . والتقدير : كيف يصنعون ويحتالون .
وجعل سيبويه { كيف } في مثله ظرفاً وتبعه ابن الحاجب في الكافية . ولعله أراد الفرار من الحذف .
وجملة { يضربون وجوههم وأدبارهم } حال من { الملائكة } . والمقصود من هذه الحال : وعيدهم بهذه المِيتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم ، أي يضربون وجوههم التي وَقَوْهَا من ضرب السيف حين فرُّوا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي ، أو العباس بن مدراس :
نعرّض للسيوف إذا التقينا *** وجوهاً لا تُعرض للنظام
ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا ، وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفرُّوا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.