{ 87 } قال تعالى { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ْ } أي : كيف رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع النساء المتخلفات عن الجهاد ، هل معهم فقه أو عقل دلهم على ذلك ؟ أم طبع الله على قلوبهم فلا تعي الخير ، ولا يكون فيها إرادة لفعل ما فيه الخير والفلاح ؟ فهم لا يفقهون مصالحهم ، فلو فقهوا حقيقة الفقه ، لم يرضوا لأنفسهم بهذه الحال التي تحطهم عن منازل الرجال .
وقوله : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } الآية ، تقريع وإظهار شنعة كما يقال على وجه التعيير رضيت يا فلان ، و { الخوالف } النساء جمع خالفة ، هذا قول جمهور المفسرين ، وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة ، فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد أخسة الناس وأخالفهم ، وقال النضر بن شميل في كتاب النقاش : { الخوالف } من لا خير فيه ، وقالت فرقة { الخوالف } جمع خالف فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك ، { وطبع } في هذه الآية مستعار ، ولما كان الطبع على الصوان والكتاب مانعاً منه وحفاظاً عليه شبه القلب الذي قد غشيه الكفر والضلال حتى منع الإيمان والهدى منه بالصوان المطبوع عليه ، ومن هذا استعارة القفل والكنان للقلب ، و { لا يفقهون } معناه لا يفهمون .
استئناف قصد منه التعجيب من دناءة نفوسهم وقلّة رجلتهم بأنّهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا تبعاً للنساء . وفي اختيار فعل { رضوا } إشعار بأنّ ما تلبسوا به من الحال من شأنه أن يتردّد العاقل في قبوله كما تقدّم في قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] وقوله : { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } [ التوبة : 83 ] .
والخوالف : جمع خالفة وهي المرأة التي تتخلّف في البيت بعد سفر زوجها فإن سافرت معه فهي الظعينة ، أي رضوا بالبقاء مع النساء .
والطبع تمثيل لحال قلوبهم في عدم قبول الهدى بالإناء أو الكتاب المختوم . والطبع مرادف الختم . وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) . وأسند الطبع إلى المجهول إمّا للعلم بفاعله وهو الله ، وإمّا للإشارة إلى أنّهم خلقوا كذلك وجبلوا عليه وفرع على الطبع انعدام علمهم بالأمور التي يختصّ بعلمها أهل الأفهام ، وهو العلم المعبّر عنه بالفقه ، أي إدراك الأشياء الخفيّة ، أي فآثروا نعمة الدعة على سُمعة الشجاعة وعلى ثواب الجهاد إذ لم يدركوا إلاّ المحسوسات فلذلك لم يكونوا فاقهين وذلك أصل جميع المَضار في الداريْن .
وجيء في إسناد نفي الفقاهة عنهم بالمسند الفعلي للدلالة على تقوّي الخبر وتحقيق نسبته إلى المخبر عنهم وتمكّنه منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}، يعني مع النساء، {وطبع}، يعني وختم {على قلوبهم} بالكفر، {فهم لا يفقهون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: رضي هؤلاء المنافقون الذين إذا قيل لهم: آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله، استأذنك أهل الغنى منهم في التخلف عن الغزو والخروج معك لقتال أعداء الله من المشركين، أن يكونوا في منازلهم كالنساء اللواتي ليس عليهنّ فرض الجهاد، فهن قعود في منازلهنّ وبيوتهنّ.
"وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ" يقول: وختم الله على قلوب هؤلاء المنافقين، فهم لا يفقهون عن الله مواعظه فيتعظون بها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) قيل: مع النساء، فهذا حرف تعيير وتوبيخ؛ أي رضوا بأن يكونوا في مشاهد النساء دون مشاهد الرجال.
وقوله تعالى: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) إن للإيمان نورا تبصر به عواقب الأمور، ويرفع الحجاب والستر عن القلوب وعن الأمور، فتراها بادية ظاهرة. وللكفر ظلمة تستر الظاهر من الأمور والبادي منها، فتستر تلك الظلمة قلبه، ذلك الطبع، وقد ذكرنا الوجه فيه في غير موضع، والله أعلم. (فهم لا يفقهون) ما يلحقهم من التغيير برضاهم بالقعود مع الخوالف. و الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، منعت تلك الظلمة أن تعرف الأشياء بمعانيها وبنظائرها للحجاب الذي ذكرنا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى بأن هؤلاء الذين قالوا "ذرنا نكن مع القاعدين "من المنافقين رضوا لنفوسهم أن يكونوا مع الخوالف وهم النساء والصبيان والمرضى والمقعدون. قال الزجاج: الخوالف: النساء لتخلفهن عن الجهاد، ويجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال، والخالف والخالفة الذي هو غير نجيب...
وقوله "وطبع على قلوبهم" قيل في معناه قولان:.
الثاني -أن يكون المراد بذلك الذم لها بأنها كالمطبوع عليها فلا يدخلها صبر ولا ينتفي عنها شر، لأن حال الذم لها يقتضي صفات الذم، كما أن حال المدح يقتضي صفات المدح...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{رضوا بأن يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مع الخوالف} أي النساء {وطبع} أي و وقع الطبع المانع {على قلوبهم} أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى. ولما أبهم فاعل الطبع، نفى دقيق العلم فقال: {فهم} أي بسبب هذا الطبع {لا يفقهون*} أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح، فقد اكتنفت آية الأموال في أول القصة وآخرها ما يدل على مضمونها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(رضوا بأن يكونوا مع الخوالف).. وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون.. ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم. "إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة. وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين. وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون "ومن هؤلاء.. أولئك الذين (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد بين سبحانه وتعالى هوان هذه النفوس فقال تعالت كلماته: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}
وإذا كان أولو الطول والسعة والقوة في أبدانهم قد قالوا {ذرنا نكن مع القاعدين}، ولا تستنفرنا في جهادك الذي بعدت فيه الشقة وعظمت فيه المشقة فقد رضوا بان يكونوا مع الخوالف والخوالف جمع خليفة، وهي المرأة المتخلفة عن الجهاد، ويطلق على ما لا خير فيه، أي أنهم رضوا أن يكونوا كالنساء القاعدات في البيوت، والأشياء التي لا خير فيها ولا منفعة، أي رضوا بحياة الدعة والاسترخاء ولو كان معها الذلة، وتركوا حياة الكد والتعب ولو كان فيها العزة.
وقال تعالى: {وطبع على قلوبهم} أي أنه بهذه الحال وأخواتها، مما فروا فيها من الجهاد فرار الجبناء، فسدت نفوسهم، وأغلقت قلوبهم عن حب الخير والعيش الكريم، وبنى للمجهول للإشارة إلى الأسباب المتراكمة التي توالت على نفوسهم، وطبعتها على النفاق، فطبع مع النفاق الذلة والاستهزاء والكذب، وإخلاف الوعد، وإن مدوا أعناقهم للذلة.
إن النفاق يولد الجبن، والجبن يولد المذلة والكذب وكل قبائح النفس، ولذا قال تعالى: {فهم لا يفقهون} و (الفاء) تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن طبع القلب على النفاق يفسد الفكر، فلا ينظر إلى عواقب الأمور، ولا ما تنتهي إليه، وأعيد الضمير في قوله تعالى: {فهم} لتأكيد وصفهم، وثبوت حالهم، والفقه كما ذكرنا هو العلم بلباب الأمور وغايتها، فهم لم يعرفوا أن موقفهم لو سلك المؤمنون مسلكه لذلوا، ولذهبت ريحهم، ولم يدركوا أنهم بما يفعلون يقون أنفسهم من شقة الجهاد، ولكن يكونون مهينين في الدنيا، وتنالهم جهنم وبئس المصير.