{ 73 ْ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ }
لما عقد الولاية بين المؤمنين ، أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض{[359]} فلا يواليهم إلا كافر مثلهم .
وقوله : { إِلَّا تَفْعَلُوهُ ْ } أي : موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم ، أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين .
{ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ْ } فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل ، والمؤمن بالكافر ، وعدم كثير من العبادات الكبار ، كالجهاد والهجرة ، وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض .
هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة ، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس ، كما تقول لمن تريد أن يستضلع{[5490]} : عدوك مجتهد ، أي فاجتهد أنت ، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال : أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر ، وذلك في صدر الإسلام ، وذلك أيضاً مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً }{[5491]} .
والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر ، وقوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ النساء : 97 ] إنما هي فيمن قتل مع الكفار ، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى ناراهما » الحديث{[5492]} على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصاً يقول من غلب كنت معه ، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي ، والضمير في قوله { إلا تفعلوه } قيل هو عائد على الموارثة والتزامها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة ، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول ، ويظهر أيضاً عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } [ الأنفال : 72 ] وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها ، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين ، ويجوز أن يعود الضمير مجملاً على جميع ما ذكر ، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر ، و «الفساد الكبير » ظهور الشرك ، وقرأ جمهور الناس «كبير » بالباء المنقوطة واحدة ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «وفساد عريض » ، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض » .
هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا } [ الأنفال : 72 ] وما عطف عليه . والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي : وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين ، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضاً ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لولا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم ، وبقرينة قوله : { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي : إنْ لا تفعلوا قطع الولاية معهم ، فضمير تفعلوه عائِد إلى ما في قوله : { بعضهم أولياء بعض } بتأويل : المذكور ، لظهور أنْ ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضاً ، لولا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم .
والفتنة اختلال أحوال الناس ، وقد مضى القول فيها عند قوله : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [ البقرة : 102 ] وقوله { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] ، وقد تقدّم القول فيها آنفاً في هذه السورة .
والفتنة تحصل من مخالطَة المسلمين مع المشركين ، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام ، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة ، وقد كان إسلام من أسلم مثيراً لحنق المشركين عليه ، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم ، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم ، فيحِنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر . فكان إيجاب مقاطعتهم ؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات ، وإنسائهم تلك الأحوال ، بحيث لا يشاهدون إلاّ حال جماعة المسلمين ، ولا يشتغلوا إلاّ بما يقوّيها ، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين ، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض ، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي ، فلذا كان هذا حسماً لوسائل الفتنة .
والتعريف في الأرض } للعهد والمراد أرض المسلمين .
و« الفساد » ضدّ الصلاح ، وقد مضى عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
والكبير حقيقته العظيم الجسم . وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] .
والمراد بالفساد هنا : ضد صلاح اجتماع الكلمة ، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم ، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين ، ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر أو النفاق ، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم ، وهذا فساد كبير ، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية ، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافاً واحداً ، وتجنّب ما يضادها ، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة . وذلك فساد كبير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.